الولايات المتحدة وأسقاط هيبة إيران: هل يمكن تكرار نموذج اليابان؟
لم تكتف الولايات المتحدة بإلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين خلال أغسطس (آب) 1945، بل أصابت ما هو أعمق من البنية التحتية، إذ أسقطت “هيبة الإمبراطور” نفسه رمز الأمة اليابانية المقدسة، وبعد ذلك بأيام خرج الإمبراطور هيروهيتو بصوته للمرة الأولى إلى الشعب مُقراً بالهزيمة، لتنتهي بذلك أسطورة “الرجل الإلهي” التي امتدت لقرون.
اليوم، مع تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران والضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران وتلميحات ترمب المتكررة بـ”قطع رأس الأفعى” في طهران، يعود السؤال القديم بثوب معاصر، هل يمكن للولايات المتحدة أن تسقط صورة المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي بالطريقة نفسها، الرمزية والسياسية، التي أسقطت بها إمبراطور اليابان؟
خامنئي مقابل هيروهيتو
لم يكن هيروهيتو مجرد رأس للنظام الإمبراطوري بل كان الرمز الروحي والثقافي للهوية اليابانية، كذلك يمثل علي خامنئي داخل إيران اليوم سلطة تتجاوز القرار السياسي، فهو “الولي الفقيه” وامتداد ديني لسلطة مطلقة تتشابك فيها عناصر الدين والقومية والتاريخ الشيعي.
لكن الفارق أن هيروهيتو احتفظ بمكانته الرمزية بعد الحرب تحت الاحتلال الأميركي، بينما تشير معظم المؤشرات إلى أن واشنطن تسعى إلى محو كامل لصورة خامنئي من الوعي الإيراني والعالمي، لا إعادة تشكيلها.
كتب الصحافي الأميركي روبرت كابلان في تحليل لـ”ذا أتلانتيك” أن “هيبة إيران لا تتجلى فقط في سلاحها النووي أو فيلق القدس، بل في صورة رجل مسن يرتدي عباءة سوداء ويظهر مرتين خلال الأسبوع على التلفزيون كظل لله على الأرض”، وهذه الصورة وفق كابلان هي ما تسعى واشنطن إلى تفكيكها أولاً.
الهيبة سلاح حرب… من الساموراي إلى الحرس الثوري
حين أنهت واشنطن عهد الإمبراطور الياباني كإله حي كانت تعي أنها تنتزع من اليابانيين جزءاً من هويتهم الجماعية، فاختفاء الساموراي والجيشا (مصطلحان يابانيان يرتبطان بتاريخ اليابان وثقافتها، فالساموراي محاربون يابانيون نبلاء، بينما الجيشا أو الغيشا فنانات محترفات في اليابان يقدمن الترفيه والخدمات الاجتماعية) لم يكن صدفة ثقافية، بل نتاج إعادة برمجة شاملة لهوية الأمة. واليوم، تدرك واشنطن أن هيبة الحرس الثوري لا تقل رمزية عن سيوف الساموراي، العقوبات ليست موجهة فقط لكبح سلاح أو برنامج نووي، بل لتفريغ نظام الملالي من رموزه الأخلاقية والروحية.
تسعى واشنطن لتفكيك مكونات “النعومة الإيرانية” كما أسقطت رمزية الساموراي والجيشا (غيتي)
هل تمتلك واشنطن الأدوات ذاتها؟
نجحت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في السيطرة الكاملة على اليابان، لكنها تمتعت يومها بـ”تفويض مطلق” من المجتمع الدولي بعد كارثة نووية، وفي المقابل لا تملك واشنطن اليوم الغطاء الكامل لمحو النظام الإيراني لا دبلوماسياً ولا عسكرياً، لكنها تعوض ذلك بحرب سيبرانية وإعلامية مكثفة لتشويه صورة النظام داخلياً وخارجياً، ودعم احتجاجات شعبية وتضخيم رموز بديلة مثل النساء غير المحجبات أو الفنانين المعارضين، وكذلك استهداف الرموز الاقتصادية والثقافية مثل صادرات الزعفران والسجاد الإيراني كجزء من “تفكيك ناعم” للهيبة.
وفي هذا السياق، أشار توماس فريدمان في “نيويورك تايمز” إلى أن “الهيمنة على الشرق الأوسط عام 2025 لا تُفرض بالدبابات، بل بكاميرات ’تيك توك‘ والزعفران الذي لا يصدر، والسجاد الذي لا يجد أسواقاً”، وهو تعبير رمزي عن الحرب الجديدة على الهيبة الثقافية الإيرانية.
من طوكيو إلى طهران
حين دخل الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر قصر الإمبراطور في طوكيو، تعمد الوقوف إلى جانب هيروهيتو في صورة شهيرة أظهرت تفاوتاً متعمداً في القوة والهيبة، وكانت الصورة جزءاً من “هندسة إذلال رمزي” تهدف إلى تحجيم صورة الإمبراطور أمام شعبه.
واليوم، لا وجود لقصر إيراني مماثل، لكن المنصات الرقمية والإعلامية صارت مسرحاً لهندسة مماثلة، فواشنطن وحلفاؤها يروجون لصور خامنئي المنهك أو تلك التي يظهر فيها متعثراً صحياً، ويبرزون الفجوة بين أحياء طهران الغنية والفقيرة، ويضخمون صور الاحتجاجات.
وأشار مقال نُشر في “فورين بوليسي” خلال مارس (آذار) الماضي إلى أن أميركا لم تعد في حاجة لقصف مرئي، بل فقط لتآكل الصورة المقدسة في وعي الإيرانيين أنفسهم، وهذا ما تحققه بدعم المعارضة الداخلية والشتات النشط، وتكثيف حملات التشويه.
الزعفران والسجاد… الرموز الصامتة للهوية
يعد الزعفران الإيراني الملقب بـ”الذهب الأحمر” والسجاد اليدوي الفاخر من أبرز صادرات إيران، لكنهما أيضاً رمزان ثقافيان عميقان لهوية إيران، إذ يمثل الزعفران طبقة النخبة والذوق الفارسي الرفيع، والسجاد يجسد التاريخ والحرفة والفن.
لكن الموجة الاقتصادية والسياسية الأخيرة أثرت عليهما، إذ انخفضت صادرات الزعفران بأكثر من 40 في المئة خلال عام 2024 بسبب العقوبات، واتجهت الأسواق الأوروبية والخليجية إلى مصادر بديلة في الهند وأفغانستان، كما أن السجاد الإيراني الذي كان يُفرش في القصور والمراسم بات يواجه عزوفاً دولياً، بسبب صورته المرتبطة بنظام الملالي.
وكتبت الصحافية البريطانية ليندسي هيلسوم في “تشاتام هاوس” قائلة إن “زعفران إيران ليس فقط توابل بل استعارة للهوية، وحين ينحسر تنحسر معه كرامة طبقة بأكملها”.
وبذلك، تتحول واشنطن إلى تفكيك مكونات “النعومة الإيرانية”، كما أسقطت سابقاً رمزية الساموراي والجيشا كجزء من إعادة تعريف اليابان بعد الحرب.
حين تسقط الرموز يسقط النظام
تاريخياً، لم تسقط الأنظمة الكاريزمية فقط بالرصاص، بل بتفكك رموزها الثقافية والدينية، وحدث ذلك في روما مع الإمبراطور نيرون، وداخل ألمانيا مع هتلر، وفي اليابان مع هيروهيتو، والآن تبدو إيران على عتبة تفكك رمزي داخلي لا يقل فاعلية عن التدخل العسكري.
خامنئي لا يحكم فقط بالأجهزة، بل بالرمزية المتراكمة على مدى أربعة عقود، تتجلى في خطب الجمعة وصور رمزية مثل قاسم سليماني، لكن مع تآكل تلك الرموز وظهور جيل لا يعرف الحرب مع العراق، تصبح تلك الصور بلا جاذبية.
كتب الباحث الإيراني مهدي خلجي في “بروكينغز” أن “كل ما تملكه الجمهورية الإسلامية لتبرير استمرارها صار الآن على المحك، ولاية الفقيه والخطاب الثوري وذاكرة الحرب جميعها