ليس هناك في الدنيا ما هو أكثر إثارة وغموضاً من دخول المكتشف لمقبرة جديدة لأول مرة بعد الأف من السنين مرت وهي مغلقة تماماً ومختفية أسفل رمال الصحراء..
ولحظة الكشف هذه من اللحظات التي يعجز المكتشف عن وصفها بكلمات، وقد حاول كثير من المكتشفين نقل لذة وإثارة اكتشافاتهم ولم ينجحوا في ذلك؛ لأنها كما ذكرت أعظم وأكبر من أن توصف بكلمات، فقط هي لحظة من لحظات العمر العظيمة وهي غير كل اللحظات.!
وليس كل الأثريون بمكتشفين، فهناك من الأثريين من عاش حياته وقضى نحبه دون أن تمر عليه هذه اللحظة، وآخرون ممن أسعدهم الحظ مروا بهذه التجربة مرات ومرات، وفي كل مرة كانت الإثارة مختلفة وبطعم خاص، فلكل كشف أثرى جماله وغموضه المختلف..
ولقد أسعدني الحظ وذقت لذة الكشف وإثارته التي لا توصف.. فكم من مرة قمت فيها بفتح جدار مغلق ونظرت إلى داخل المقبرة لأول مرة، وفتحت التوابيت المغلفة على أجساد دفنت منذ آلاف السنين ونظرت إلى وجوه مومياوات ترى الشمس لأول مرة بعد آلاف السنين.
سأحكي لكم: كنت على موعد في الأسبوع المنقضى مع كشف جديد بمنطقة رأس الجسر وتقع بمدخل سفارة، حيث عثرت على مقبرتين مغلقتين لم يفتحا منذ آلاف السنين.. وفى اليوم الذي سبق فتح إحدى هاتين المقبرتين، وكالعادة هاجمتني الأحلام ولم يكن نوماً هادئاً، بل هو نوم المتعجل للحظة شروق الشمس لأنه يعرف أنه على موعد مع كشف مذهل لا يعلم عنه شيء.. فهل ستكون المقبرة خالية بعد أن تم نهبها في العصور القديمة؟ أم أن اللصوص خلفوا ورائهم بعض محتويات المقبرة.. أم أن المقبرة ستكون سليمة لم تمس؟..
ومع إشراقة شمس الصباح أخذت طريقي إلى سقارة وكان هناك الريس أحمد الكريتي الذي قام بإعداد كل شيء يفتح المقبرة الأولى التي كانت مغلفة بحجر ضخم إضافة إلى أحجار صغيرة على جوانبه سدت بمونه لكي تحجب مدخل المقبرة.. وبعد أن قام الريس أحمد بمهارة هو وعماله بإزالة الحجر الضخم، وجدنا الفيانس.. داخل حجرة الدفن هيكل عظمياً لطفل وآخر لرجل بالإضافة إلى العديد من الأواني الفخارية وإنائين من
أما المقبرة الثانية فكانت بحق مغامرة مثيرة جداً، وقد مكثت قرابة الساعتين ونحن نحاول فتح المدخل المغلق بالحجر الجيرى، وعندما دخلت إلى الحجرة الأولى وجدنا أن هناك كتلة ضخمة تزن أكثر من طنين قد سقطت من السقف، وبدأ العمال يشعرون بالخوف بمجرد النظر إلى سقف المقبرة.. ولكني لم استطع سوى أن أدخل إلى داخل الحجرة وبدأت في فحص سقف المقبرة، ووجدت أن الفراعنة قاموا بترميم السقف نظراً لوجود العديد من الشقوق، وأن الحجر في هذه المنطقة ليس صاداً تماماً، وعلى الرغم الموقف إلا أننا استكملنا العمل والشكف عن متحويات المقبرة، ووجدنا آثاراً مهمة منها مومياوات لطيور تمثل الطائر المقدس “أيبس” رمز الإله “جحوتي” إله الحكمة عند المصرى القديم، بالإضافة إلى أواني فخارية، وكان مما كشف عنه على بعض قطع الفخار كتابات هيروغليفية.. وفى الناحية الجنوبية من الحجرة الأولى توجد حجرة أخرى داخلها العديد من الجماجم والهياكل العظمية تؤكد أن هذه المقبرة كانت مقبرة جماعية استخدمت للدفن على مدار سنوات طويلة استمرت إلى العصر الروماني.. ونظراً لضيق المساحة ما بين السقف والأرض قمت بالزحف حتى وصلت إلى مدخل ضيق في الناحية الغربية.
ومثلما يحدث في أفلام المغامرات وجدت نفسي أضطر إلى القفز داخل حجرة أخرى كبيرة داخلها بئر عميق يصل عمقه إلى حوالى عشرة أمتار، ومحاط بأربعة حجرات أخرى مغلقة تماماً بالرديم، ولم استطع دخول الحجرات الصغيرة، وحاولت الدخول إلى حجرة كبيرة موجودة في الناحية الشمالية.. وإلى الآن لا أعرف كيف استطعت الدخول إلى هذه الحجرة دون الوقوع في البئر ..؟
إنها أخر مغامرة قمت بها مع أحدث كشف مثير بمنطقة سقارة، وسوف أقوم وفريق العمل الذي يعمل معي في الحفائر بكشف هذه المقبرة بالكامل، وقد أعطيت المساعدى عبد الحكيم كرار تعليمات بتنظيف وتسجيل كل ما هو موجود بالمقبرة ودراسة العظام الآدمية ومومياوات الطيور بواسطة متخصصين لكي نكتشف الكثير من أسرار الفراعنة..
هذه هي إذن إحدى حلقات الكشف عن أسرار سقارة التي يبدو أنها لا تزال تحتفظ بالكثير والكثير من أسرار الفراعنة.. هذه الجبانة المقدسة عشقها أجدادنا وبدأوا في بناء مقابر بها منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وهي الجبانة الوحيدة في العالم كله التي ظلت مستخدمة لقرابة 3500 سنة تقريباً دون انقطاع…
فهل هناك مكان على الأرض ظل يستخدم لكل هذا الزمن؟
بالطبع الإجابة بالنفي.. إنها جبانة سفارة التي أخذت اسمها من اسم الإله المصرى القديم “سوكر”، الذي يعنى اسمه (الصمت).. وبالفعل فهى جبانة الصمت والخلود. ويستمر الحديث في سرد مغامراتي في عالم الآثار للكشف عن أسرار الفراعنة ولنعرف عبقرية الأجداد، وأن هذا السر يكمن في اعتقادهم في البعث والخلود، وهذا سر النبوغ والعظمة… عظمة الأجداد…