يعد صباح الثاني والعشرين من يونيو عام 2025 يومًا فارقًا، حيث انخرطت الولايات المتحدة في ساحة المواجهة بدور مباشر ونشط، بعدما شنت ضربات جوية استهدفت ثلاثة من أبرز المواقع النووية الإيرانية (فوردو، نطنز، وأصفهان)، وقد شكل هذا التطور تصعيدًا نوعيًا غير مسبوق، إذ سجل للمرة الأولى انخراطًا أميركيًا علنيًا في استهداف البنية التحتية النووية الإيرانية، مما كسر القواعد وإرباك توازنات المنطقة وفتح الباب واسعًا أمام ردود فعل محتملة من طهران وحلفائها، ورفع منسوب التوتر في منطقة تقف منذ سنوات على شفير الانفجار.
وتعد الضربات الأخيرة تمثل تحولًا في العقيدة الاستراتيجية الأميركية، وتجاوزًا واضحًا لسياسة الردع الدبلوماسي فتحركات واشنطن من الدفاعية إلى الهجومية، معلنة عن استعداد لتجاوز الخطوط الحمراء إذا تطلب الأمر بحسب ترامب، فالهدف ليس تدمير مشروع طهران النووي فحسب ولكن إجبار النظام على إعادة التفاوض أو مواجهة مزيد من الضرب، وقد عللت الإدارة الأميركية من جانبها علي هذه العملية بأنها ضربة وقائية لحماية أمن إسرائيل والاستقرار العالمي، بينما رآها البعض محاولة لإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي، حتى ولو على حساب إشعال حرب إقليمية مفتوحة.
وجاء رد إيران سريعًا ويتمتع بالجرأة؛ فقد أطلقت طائرات مسيرة وصواريخ باليستية باتجاه أهداف إسرائيلية، مؤكدة وقوع إصابات وأضرار بالغة، وأعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن إيران تحتفظ بجميع الخيارات للرد متعدد المراحل، محذرًا من أن العدوان الأميركي– الإسرائيلي سيكون له عواقب لا تمحى ولن يمر بلا حساب ويكشف الرد عن قرارًا للردع، لكنه يخشى من التصعيد المفتوح وسط تهديدات بإغلاق مضيق هرمز، واستهداف قواعد أميركية في الخليج وإن بدت حتى الآن محسوبة، إلا أنها تحمل في طياتها إمكانية الانزلاق نحو حرب شاملة إذا ما تم تجاوز خطٍ أحمر إضافي، أو وقع خطأ تكتيكي غير مقصود.
وقد دخلت المنطقة بأسرها في ظل هذا التصعيد غير المتوقع في حالة من الترقب القلق والخوف الوجودي، فالمنطقة تغلي بعد أن فقدت التوازن الذي تولد عبر عقود، مع احتمالية نشوب مواجهة متعددة الجبهات تشمل لبنان والعراق وسوريا واليمن وقطاع غزة، بينما تراقب دول الخليج بقلق شديد تطورات المشهد وتحذر من انزلاق عشوائي يؤدي إلى مواجهة لم يعد من الممكن إيقافها بسهولة، قد تفجر الصراع في منطقة استراتيجية حساسة بالكامل، ومدركة أن أي اشتباك إيراني مع المصالح الأميركية في مياه الخليج سيجعلها طرفًا في المعركة، ومن ثم فهذه التحركات تنذر بأن المنطقة بصدد الدخول في فصل جديد من المواجهة، حيث تغيب الخطوط الفاصلة وتعم الرؤية الضبابية.
وتتمثل التداعيات المباشرة للتصعيد العسكري اقتصاديًا، حيث أطلق العدوان موجة من القلق العالمي بشأن أمن الطاقة، فكل انفجار في الشرق الأوسط يهز الأسواق فقد قفزت أسعار النفط بشكل حاد وسط مخاوف من إغلاق مضيق هرمز أو تعطل إمدادات الطاقة من الخليج، وارتفعت إلى جانبها أسعار الذهب، والغاز، والقمح، في وقت بدأت تظهر فيه بوادر أزمة حقيقية في حركة النقل والتأمين البحري بالمنطقة، وقد أعاد هذا الاضطراب إلى الأذهان أشباح الركود والتضخم العالميين، وزاد من الضغط على الاقتصادات في الدول النامية، كما جعل من الأمن الغذائي قضية ملحة في ظل توتر إقليمي قد يمتد أثره إلى سلاسل الإمداد العالمية، لا سيما تلك العابرة لقناة السويس والبحر الأحمر، ما ينذر بتداعيات عابرة للقارات قد تطال حياة الشعوب بشكل مباشر.
وتلوح في الأفق على المستوى الإنساني ملامح سيناريو نزوح داخلي واسع داخل إيران وإسرائيل، في مناطق خاصة التي شهدت ضربات مباشرة طالت البنى التحتية المدنية ومع اتساع نطاق القصف، وغياب أي مؤشرات لعودة التهدئة، يصبح احتمال النزوح الجماعي نحو دول الجوار أمرًا مرجحًا، مما يهدد باستنزاف قدرات الاستيعاب الإنساني، ويفتح الباب أمام أزمات لجوء جديدة تضاف إلى سجل الشرق الأوسط المثقل بالمعاناة.
وجاء الرد الأوروبي والدولي حذرًا إذ اكتفى معظم الفاعلين الكبار بإصدار دعوات إلى التهدئة وحماية أمن الملاحة والطاقة، بينما راقبت كل من روسيا والصين المشهد عن كثب، مع بوادر لتحرك دبلوماسي مضاد قد يرفعان به سقف المعارضة في مجلس الأمن والمحافل الدولية، غير أن السيناريو الأخطر الذي يشغل بال المراقبين، هو احتمال تواصل الضربات المتبادلة واتساع دائرة الاشتباك لتشمل أطرافًا إقليمية أخرى، فأي استهداف إضافي للمنشآت النووية أو وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، قد يفتح الباب أمام تدخلات دولية غير مباشرة، ويزيد من احتمالية انزلاق المنطقة إلى حرب طويلة الأمد، تعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي لعقود قادمة، وتضع الشرق الأوسط أمام منعطف تاريخي لا يمكن التنبؤ بمآلاته.
ويكمن السبيل الوحيد لتفادي الانزلاق إلى حربٍ إقليميةٍ واسعة، في تهدئة سريعة ومباشرة، ووقف فوري لإطلاق النار من كلا الطرفين، يعقبه كشف متبادل عن النوايا، وتحديد سقف تفاوضي ذكي يوازن بين ضرورات ومطالب الأمن الإقليمي ومقتضيات الاستقرار العام، ومن الضروري فتح قنوات دبلوماسية نشطة برعاية دولية، تشمل الولايات المتحدة وأوروبا، مع إشراك أطراف إقليمية متوازنة قادرة على بناء جسور الثقة وتبديد المخاوف المتراكمة، وقد يبدو هذا المسار معقدًا ومثقلًا بالتجاذبات والمصالح المتضاربة، لكنه يظل الخيار الأكثر عقلانية واتزانًا، والأقل كلفة إنسانيًا وجيوسياسيًا، من الانزلاق إلى دوامة التصعيد التي قد يصعب الخروج منها.
إن العدوان الإسرائيلي وما أعقبه من انخراطٍ أميركي مباشر، يشكلان نقطة تحول خطيرة في طبيعة الصراع، ويؤسسان لمرحلة جديدة قد تعاد فيها صياغة الخرائط الجيوسياسية والأمنية في الشرق الأوسط برمته؛ ولهذا فإن وقف التصعيد أضحي ضرورة عاجلة تمليها مصلحة المنطقة والعالم على حد سواء، وفتح مسار دبلوماسي فاعل برعاية دولية نزيهة يجب أن يكون أولوية مطلقة لدى جميع الأطراف، قبل أن تتفاقم الأزمة وتفقد السيطرة وتبلغ نقطة اللاعودة.
ونؤكد أن ما نشهده اليوم يعد منعطفًا تاريخيًا حادًا في مسار الإقليم، ولحظة مفصلية تستدعي وعيًا سياسيًا يتجاوز ردود الفعل الانفعالية، وشجاعة استراتيجية تضع مصلحة الشعوب، وكرامة الإنسان، فوق أطماع وأجندات الهيمنة والمصالح القوة الضيقة، فمهما بدت العودة إلى طاولة المفاوضات صعبة، ومحفوفة بالعوائق والشكوك، فإنها تظل الخيار الأجدر بالعقلاء، والأقدر على تجنيب المنطقة والعالم منزلقًا كارثيًا، قد يُشعل حربًا لا تبقي ولا تذر وتزعزع النظام الدولي بأسره، فإما أن تنتصر الحكمة في هذا الظرف العصيب المنعطف الحرج، أو تنزلق المنطقة والعالم إلى جحيم لا يعرف حدوده أو التنبؤ بتوقيت نهايته.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

