التضخم: الرابحون المنسيون في ظل ارتفاع الأسعار
غالباً ما يُنظر إلى التضخم باعتباره عبئاً على الأسر والشركات، فهو يُضعف القدرة الشرائية، ويضغط على هوامش الأرباح، ويدفع البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة. لكن ليس كل القطاعات تتضرر. وبينما تحظى شركات النفط وتجار الذهب والبنوك بتغطية إعلامية واسعة باعتبارها من المستفيدين التقليديين من التضخم، هناك قطاعات أخرى تزدهر أيضاً وسط موجة ارتفاع الأسعار. من التكنولوجيا إلى العلاج النفسي، يكشف هذا التقرير عن الرابحين المنسيّين الذين يحققون مكاسب في الظل، بينما يعيد التضخم تشكيل ملامح الاقتصاد.
التكنولوجيا والأتمتة
مع اتساع رقعة التضخم في الأجور في الاقتصادات المتقدمة والناشئة على حد سواء، باتت الشركات تتجه بشكل متزايد إلى التكنولوجيا والأتمتة لحماية هوامش أرباحها. ولم تعد الروبوتات وبرامج المؤسسات والأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي رفاهية مستقبلية، بل أصبحت دروعاً أساسية في مواجهة تكاليف التشغيل المتزايدة.
وفق تقرير صادر عن "ليبرتي أدفايزر غروب" صادر في مايو 2023، فإن أكثر من 60% من الشركات المتوسطة رفعت ميزانياتها التكنولوجية كرد فعل على التضخم، وأصبحت الأتمتة الآن تُصنف كاستراتيجية أساسية لضبط التكاليف. وأكد التقرير أن "الشركات لا تسعى إلى الأتمتة من باب الابتكار فقط، بل بدافع الضرورة المالية، إذ تتجاوز وتيرة تضخم الأجور معدلات نمو الإنتاجية".
وتعزز بيانات الشركات هذا التوجه إذ فقد أعلنت شركة "يويباث" الرائدة في أتمتة العمليات الروبوتية عن تحقيق إيرادات بقيمة 357 مليون دولار في الربع الأول من 2025، بزيادة 6% على أساس سنوي، مع بلوغ الإيرادات السنوية المتكررة (الاشتراكات أو الخدمات المستمرة، مثل اشتراكات البرامج أو العضويات) 1.693 مليار دولار أميركي.
في المقابل، حققت شركة "إيه بي بي" السويسرية إيرادات قدرها 3.21 مليار دولار من قسم الروبوتات والأتمتة المنفصلة في عام 2024، وهي تستعد لطرح هذا القسم كشركة مستقلة بحلول منتصف 2026 لتعزيز قيمة المساهمين، وفق تقرير موقع "روبوتيكس أوتوميشن نيوز" (Robotics and Automation News)، أبريل الماضي.
فمن برمجيات الموارد البشرية إلى روبوتات المخازن، سرعت موجة التضخم الانتقال العالمي نحو عمليات رقمية أكثر خفة، ليس سعياً وراء الابتكار فحسب، بل من أجل البقاء.
الفن والمقتنيات الفاخرة والمزادات
مع تراجع قيمة العملات الورقية واضطراب الأسواق المالية، يتجه المستثمرون الأثرياء بشكل متزايد نحو الأصول الحقيقية، مثل الأعمال الفنية والسيارات الكلاسيكية والساعات النادرة، باعتبارها ملاذات بديلة لحفظ القيمة. فقد أصبحت الفخامة وسيلة للتحوط، لا مجرد نمط حياة.
يشير تقير لشركة "كلاركسون كونسالتينغ " صدر في أبريل 2025 إلى أنه مع استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي وارتفاع الأسعار، اتجه المستهلكون في سوق السلع الفاخرة إلى الاستثمار في قطع تدوم طويلاً مثل المجوهرات والحقائب، حيث سجلت مبيعات المجوهرات الفاخرة نمواً بنسبة 22% للقطع التي تتجاوز قيمتها 5000 دولار، وارتفعت مبيعات الحقائب الفاخرة بنسبة 13% على أساس سنوي خلال 2024. يعكس هذا التوجه بحث المستهلكين عن قيمة طويلة الأجل في مشترياتهم، مع تزايد الشفافية في الأسعار وسلاسل التوريد، وابتكار نماذج تسعير جديدة مثل التسعير المباشر حسب الطلب، ما يعزز مكانة القطاع كملاذ استثماري في أوقات التضخم".
كان تقرير لمجلس "فوربس" للأعمال صادر في 2021 أشار إلى أن إيرادات المزادات الفنية العالمية سجلت ارتفاعاً بنسبة 29% على أساس سنوي خلال إحدى موجات التضخم، مشيرة إلى "علاقة عكسية" بين استقرار المحافظ التقليدية ووتيرة التضخم.
وما يزال هذا الاتجاه قائماً اليوم؛ فقد أعلنت دار "سوذبيز" عن تحقيق 6 مليارات دولار من المبيعات العالمية في عام 2024، بما في ذلك أكثر من 2 مليار دولار من مبيعات السلع الفاخرة للعام الثالث على التوالي، إلى جانب 1.4 مليار دولار من المبيعات الخاصة، ثاني أعلى مستوى على الإطلاق.
حققت دار "كريستيز" بتحقيق 5.7 مليار دولار من المبيعات، منها 1.5 مليار دولار من المبيعات الخاصة، بزيادة 41% مقارنة بالعام السابق، بحسب نتائج إعنتها الشركة في مارس الماضي.
مع تحول المزادات إلى المنصات الرقمية، باتت في متناول شريحة أصغر سناً من المستثمرين الذين يرون في لوحة من "بانكسي" أو ساعة من "باتيك فيليب" أداة استثمارية ورمزاً للمكانة الاجتماعية في آنٍ واحد.
الصحة النفسية
لا تقتصر آثار التضخم على الحسابات المالية فحسب، بل تمتد لتطال الصحة النفسية أيضاً. مع تصاعد الأسعار وتزايد الضغوط الاقتصادية، ارتفع الطلب على خدمات الصحة النفسية بشكل ملحوظ.
تشير تقارير 2025 إلى أن ارتفاع التضخم أدى إلى زيادة كبيرة في مستويات القلق والتوتر بين الأفراد، خاصة مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتراجع القوة الشرائية. أكثر من نصف الأشخاص الذين يشعرون بالقلق المالي أفادوا بأن ذلك انعكس سلباً على صحتهم النفسية، حيث ظهرت لديهم أعراض مثل اضطرابات النوم، التوتر المستمر، وأحياناً الاكتئاب وفق تقرير لشركة "فاستر كابيتال" نشر مؤخراً.
كما أوضحت الدراسات أن الخوف من فقدان الاستقرار المالي يدفع البعض إلى الشعور بالعجز واليأس، ويؤثر على العلاقات الأسرية والاجتماعية، مع تزايد الحاجة إلى دعم نفسي ومجتمعي في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية.
أفاد تقرير خلال 2023 لمركز "مايند شفت ويلنس" بزيادة في عدد المرضى الذين يعانون من القلق والأرق والإرهاق ويربطون هذه الأعراض بشكل مباشر بالتضخم والضبابية الاقتصادية. أظهر استطلاع لنفس العام مواز أجرته الجمعية النفسية الأميركية أن 72% من البالغين في الولايات المتحدة اعتبروا المال مصدراً رئيسياً للضغط النفسي، ارتفاعاً من 65% في سنوات ما قبل وباء كورونا.
تواكب منصات العلاج عبر المنصات الرقمية هذا الطلب المتزايد. فقد حافظت شركة "بيتر هيلب" على مكانتها كأكبر مركز خدمات للعلاج النفسي عبر الإنترنت حول العالم، بحسب تقرير لمنصة "هيلث كير برو" نشرته الشهر الحالي المنصرم.
أشار تقرير لموقع "ياهو فاينانس" أيضاً إلى أن شركة "توك سبيس" حققت إيرادات بقيمة 52.2 مليون دولار، بنمو 15%، وحققت صافي أرباح بقيمة 318 ألف دولار بعد فترة من الخسائر.
وبينما يغدو التضخم عاملاً طويل الأمد في إثارة التوتر، يتحول العلاج النفسي من خدمة هامشية إلى ضرورة، وربما فرصة ربحية أيضاً.

