الحلاقة اللبنانية: بين التراث والعصرنة
تواريخ ودلالات
في أحد الأزقة المواجهة لحمام "عز الدين" يكمل نصر الدين الخباز مسيرة الحلاقة العربية التي بدأها والده منذ 100 عام. ففي جعبة "الحلاق القديم" كما يطلق عليه جيرانه كثير من الأخبار التي تكفي لاختصار تاريخ مهنة الحلاقة. بدأ مسيرته باكراً، فبعد انتهاء الدوام المدرسي، كان يأتي إلى المحل لمساعدة والده وتعلم أصول الحلاقة، إلى أن اعتمدها مهنة له منذ نصف قرن. يقول "كانت الأجرة قروشاً، ولكنها تؤمن دخلاً دائماً للعائلة والفرد".
يرى نصر الدين أن "الحلاق القديم أكثر مهارة من الجديد، لأنه يعتمد على مهارته في استعمال المقص والمشط بصورة أساسية. في السابق لم تكن هناك آلات حلاقة كهربائية، وكان الاعتماد على الأدوات والماكينة اليدوية"، ولا يزال الرجل محافظاً على نمط عمله القديم ولا يحتاج إلى استخدام الماكينات الكهربائية إلا نادراً.
تطورات وشخصيات
يقول نصر الدين "كان الحلاق يقوم بتنفيذ بعض القصات الكلاسيكية المشهورة بالفرنسية والإنجليزية، أما اليوم فأصبح الشباب يلاحق قصات جديدة لا يعجز عن تنفيذها الحلاق القديم إذا أراد ذلك"، موضحاً أن "الحلاق القديم لديه مهارات باتت نادرة، على غرار حلاقة الشعر بالموسى وهو ما يعجز عنه كثير من الشباب لدقته، ولا يوجد أي شيء معجز، ومن ثم لا تشكل التسريحات الجديدة أي تحدٍّ لمن يريد تنفيذها ولديه المهارة والتقنيات".
ساحة لصراع الأجيال
خارج الحي التراثي، تنتشر عشرات محال الحلاقة، التي تتجه نحو العصرنة في مختلف النواحي. على مستوى الشكل يهتم أصحابها بالديكورات والزخارف والمقاعد الجلدية وأنظمة الصوتيات التي تصدح من خلالها الموسيقى والأغاني الشعبية وشبكة الـ"واي فاي" للبقاء في عالم التواصل الاجتماعي وصور منصة الانستغرام، فضلاً عن المقاعد المخصصة للأطفال. فقد نجحت شريحة من الحلاقين اللبنانيين في نقل الحلاقة إلى حيز آخر أشبه بالعناية بالرجل، كما قام بعض أصحاب المحال بدمج الحلاقة بتجارة الملابس وتغيير المظهر.
العناية بالنفس
تجاوزت الحلاقة حدود الاعتناء بالمظهر وتصفيف الشعر، إذ يتحدث عبدالسلام طليس عن شق نفسي قائلاً "يأتي أحياناً زبون يعاني نفسياً، وهنا على الحلاق إراحته، والاستماع إلى شكواه للخروج من نطاق مشكلات العمل أو المنزل، حين يصبح بعضهم أشبه بالرفيق أو الزميل، ويتكامل الحديث مع الحلاقة في إراحة نفسية الزبون".
التقاليد والثقافة
تحافظ القرى اللبنانية في مناطق الأطراف على طقوس الحلاقة التي ترتبط بالعرس والولادة الجديدة. وتعتبر من الضرورات التي ترافق "زفة العريس"، فقبل ارتداء العريس بدلته الرسمية ليقصد منزل عروسه لاصطحابها إلى حفل الزفاف، يعد أهل العريس ورفاقه حفلاً من نوع آخر للعناية بإطلالة وجمال الشاب، فتترافق حلاقة العرس مع أجواء الطبل والزمر والزغاريد ورقصة الدبكة اللبنانية.
التعليم والتوسع
شهدت مهنة الحلاقة قفزات كبيرة في لبنان، حيث تحولت إلى مورد رزق. وتعتمد نمط التعليم التطبيقي وليس النظري فقط، كما يؤكد عبدالسلام، الذي يشير إلى تعليم العشرات لا بل المئات من الشبان الذين هاجروا إلى دول الخليج وأستراليا وبلاد الاغتراب. يقول "صنعنا حلاقين سافروا إلى بلاد الخليج والاغتراب، فيما أسس بعضهم في لبنان محال خاصة بهم، ولم تخل عملية التعليم من عذاب، لكنها كانت تعطي نتيجة مهمة"، لافتاً إلى أن "الحلاق اللبناني ذكي وماهر، ولا يصعب عليه شيء، وقد أصبح بعض المتعلمين أكثر مهارة من أساتذتهم بسبب حبهم هذه الحرفة".