هناك مستويات من الإدراك نصل إليها في تعاطينا، أو تناولنا، أو تعرضنا لقضايا، قد تكون معيشية، أو ذات صبغة مجتمعية، أو حتى شخصية، وهذا يتوقف على قدر المعطيات التي تتوافر لدينا، وهنا نتحدث عن معلومات نستطيع أن نتفهم مكنونها، أو نُخرج من بين ثناياها ببعض الاستنتاجات والاستخلاصات، التي تكون لدينا رؤية خاصة بنا، أو قناعة بأمر ما، وهذا مرهون بمقدرتنا على التحليل، والتركيب، وتوظيف مهارات التفكير؛ كي نحكم في نهاية المطاف على قضيتنا محل الاهتمام بشكل صحيح.
إنها إشارة ودعوة للجميع، تؤكد على ألا نطلق أحكامًا، أو نصدر من الآراء ما لا يستند على أمانة التناول، التي ذكرناها آنفًا؛ ومن ثم نتحدث إلى أنفسنا ونتساءل، هل يمكن أن يصبح كل منا قاضيًا؟، ليس عند تناول القضايا التي نتعرض لها فقط، بل، في كل أحكامنا وقراراتنا اليومية منها، والتي تأخذ طابعًا مستقبليًا؛ فكما نعي أن القاضي لا يصدر حكمًا إلا بعد قناعة تامة، وفي ضوء مستويات معيارية يمر بها؛ فالأمانة تقتضي قطعًا التثبت من الأمر، وتحتاج لدراسة، وتريث، وعمق في التناول، ودرجات من اليقين، وفق ماهية الشاهد والدليل.
الأمر ليس معقدًا؛ لكنه يحتاج لمجهود منا في البداية؛ فنحن نرصد إنسانًا، يدفع بالرأي، دون أن يطلع على كافة التفاصيل، ثم يصدم بحقائق غابت عن البُنى المعرفية لديه، ونشاهد آخر، يحلل إشكالية بصورة سطحية، بعيدًا عن فهم عميق لمفرداتها، وربط لمكونها، وهنا نتوقع أن تكون المعالجة غير مناسبة، والحلول بمثابة ذر التراب في الأعين، وواقعنا المعاش نستلهم منه نماذجًا لا حصر لها في هذا الخضم؛ لذا بات من الضروري أن نتوقف بصدق للحظات مع أنفسنا؛ لنتعلم سويًا فلسفة ما ننادي به، والتي نحددها في مقولة واضحة، وهي “كن قاضيًا”.
إننا في أشد الاحتياج لنطالع الحقائق من مصادرها الموثوقة؛ فأخطر ما قد نواجه أن نحصل على معرفة مشوبة في صورة بيانات مزيفة، أو محرفة، أو منقوصة؛ لكن حيازتنا لمعرفة صحيحة، تُعد لبنة رئيسة، نعتمد عليها في تكوين بنى معرفية سليمة، تجعلنا نستوعب القضية التي نتناولها، بل، نفهم بعمق كافة التفصيلات التي تحويها، وتلك البداية، التي يجب أن نقف عندها في كافة ما نتعرض له؛ فالخبرة لا تكتمل إلا بمعلومات، ومعارف، لا تشوبها شائبة.
حصولنا على المعرفة القويمة، يسوقنا إلى واحة التمعن في مكنونها، وهنا نؤكد على ثلاثة أمور، الأول يكمن في تفسير ما تحصلنا عليه من معلومات، والثاني قدرتنا على ترجمة تلك المعلومات، أو البيانات؛ ليصبح لها معني لدينا، والأمر الثالث يدور حول ما نخرج به من استنتاجات، تمكننا من تصنيف ما لدينا من معارف، ومعلومات، وبيانات، وهذا في مجمله ينقلنا لمرحلة من الاستيعاب، تقوم على ماهية الفهم العميق، لمكونات القضية، التي نتناولها، أو شكلت اهتمام لدينا؛ ومن ثم يمكننا أن نفسر أوجه الغموض، ونترجم مواقف بعينها مرتبطة بالقضية، بل، نصل لمستوى متقدم، يجعلنا قادرين على استخلاص علاقات ارتباطية، بين مجريات أحداث القضية.
تعزيز الاهتمام بمرحلة التذكر والفهم، ينقلنا لمرحلة مهمة، تقوم على توظيف ما وصلنا إليه في واقعنا المعاش؛ فالقاضي يا سادة يربط بين قضيته، ونصوص القانون، الذي تدور في فلكه، وتفسر طبيعة الحدث، وهنا لا مناص عن مطابقة بالواقع؛ لنؤكد أن منطق التنظير، يتوافق مع المشهد، الذي نرصده بالحواس، أو بآليات تدعمها تقنيات، أضحت نتائجها العلمية دقيقة، لا تترك مساحة للجدال، أو التباين، وهذا يؤصل في نفوسنا وظيفية، أو إجرائية، معارفنا، بما يظهر مقدرتنا على تحقيق أقصى استفادة منها، كما أن نجاح التعاطي مع ملفات التقاضي، لا تخرج عن قراءة التفاصيل، من خلال مقدرة على التحليل، تمكننا من تفكيك المكون، والتعرف على عناصره، وإظهار العلاقة التي تعضدها شواهد بعينها، وهذا المستوي يشكل أهمية بالغة؛ حيث يشكل مستوى متقدم، بعد المرور بمرحلة الاستيعاب، والفهم العميق، والتطبيق.
ربط الأحداث ببعضها البعض، يقوم على فلسفة الابتكار، وهنا نصل لمستوى أكثر تقدمًا، في تناول قضايانا بكافة تنوعاتها، وهنا نتوقع شمولية النظرة، التي نأخذها من تصورنا الكلي للقضية محل الاهتمام، يلي ذلك المقدرة على إصدار حكم، أو صناعة قرار، واتخاذه، بعد قناعة تامة، وهذا يجعلنا نستشعر مخاطر التسرع، التي ينجم عنها أحكامًا غير صائبة؛ فاليقين لا يتكون لدينا بشكل مفاجئ؛ لكن مراحله واضحة، في ضوء ما تمت الإشارة إليه.
الشائعات التي تثير الرأي العام، وتحاول أن تحدث زعزعة، وتضعف تماسك المجتمعات؛ حيث تحمل بوابتها معلومات مشوبة، تستقبلها عقول، لا تحاول أن تبذل جهدًا في ممارسة خطوات ليست بالصعبة، بدايتها تحقق، ونهايتها قناعة؛ ومن ثم أدعو لمبادرة تحت مسمى (كن قاضيًا)؛ كي نتخلص من الأهواء، ونحفظ شباب بلادنا من فتن مغلفة في شائعات مغرضة، تبثها أبواق، وكتائب ممولة، على مدار الساعة؛ فالوعي الصحيح قضية عظمى، يتوجب ألا تغيب عن خاطرنا.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
______
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر