في عالم يموج بالصراعات والتحولات الكبرى، تتعدد التحديات التي تواجه الدول، لكن أخطرها على الإطلاق تلك التي تأتي من الداخل، حين تتخفى قوى الهدم وراء عباءات الدين والديمقراطية، لتزرع الانقسام وتبث الفوضى وتغتال استقرار الأوطان، وهنا تبرز جماعة الإخوان المسلمين كنموذج صارخ لمشروع تفكيكي بامتياز، لا ينتمي لعالم السياسة الطبيعية بقدر ما ينتمي لمدارس الفوضى الخلاقة، التي لا تزدهر إلا في مناخ الأزمات.
لقد ثبت بالتجربة أن الإخوان ليسوا جماعة دعوية كما يدعون، ولا حتى كيانا سياسيا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، بل هم تنظيم عقائدي مغلق، يتبنى منهجا لا يعترف بحدود الدول ولا مفهوم الوطنية، ويرى في نفسه وصيا على الدين والمجتمع والدولة ومشروعهم ليس بناء الدولة وإنما هدمها، ثم إعادة تشكيلها وفق تصورهم المتطرف الذي ينتمي لقرون غابرة.
إن أخطر ما يميز مشروع الإخوان هو قدرته على التلون والانتهازية؛ فهم يستغلون الديمقراطية للوصول إلى السلطة، ثم يعملون على تقويضها من الداخل و رأينا كيف تعاملوا مع أدوات الدولة حين تولوا الحكم، لا باعتبارها مؤسسات وطنية يجب تحييدها عن الصراع السياسي، بل كغنائم حرب ينبغي إخضاعها لمكتب الإرشاد، وتحويلها إلى أدوات طيعة لخدمة مشروعهم التمكيني.
وما حدث في مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013 يمثل نموذجا فريدا في كيفية التصدي لهذا النوع من المشاريع التفكيكية، فالدولة المصرية، بوعي شعبها وصلابة مؤسساتها، أدركت مبكرا أن الخطر لا يكمن فقط في بقاء الإخوان في الحكم، بل في مشروعهم الكامل الذي كان يسير بسرعة نحو تفكيك بنية الدولة المصرية وإعادة تشكيلها بما يخدم أيديولوجيتهم ولهذا لم يكن الخلاص منهم مجرد لحظة سياسية، بل بداية معركة استراتيجية طويلة الأمد، نجحت فيها مصر في تجفيف منابع التنظيم، ليس فقط أمنيا، بل ثقافيا وفكريا وتنمويا.
لقد أطلقت الدولة المصرية، بعد إسقاط حكم الإخوان، عملية تطهير شاملة للمؤسسات من العناصر المتغلغلة، وتم تفكيك شبكات النفوذ والتمويل التي استخدموها خلال فترة حكمهم، ولم تكتف الدولة بذلك، بل أطلقت سلسلة من المشروعات القومية العملاقة، كان الهدف منها إحياء الأمل في نفوس المواطنين بعد سنوات من الإحباط والانقسام، وبناء اقتصاد قوي يعزز الاستقرار ويمنع تسلل الأفكار الهدامة.
ويخطئ من يظن أن خطر الإخوان انتهى بخروجهم من السلطة؛ فالفكر لا يهزم إلا بالفكر، والتنظيم لا يتآكل إلا إذا تم تجفيف بيئة الحاضنة ، والجماعة لا تزال تتغذى على الاضطرابات في الإقليم، وتعيد إنتاج خطابها في كل أزمة، تارة بشعارات المعارضة وتارة بأقنعة حقوق الإنسان، إنهم بارعون في استغلال التحولات السياسية لزرع عناصرهم وتغذية الفوضى، حتى في الدول المستقرة نسبيا.
ولهذا أؤكد أن المواجهة مع الإخوان يجب أن تكون استباقية ومستمرة، تشمل المستويين الداخلي والخارجي، داخليا، لا بد من ترسيخ قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة، وهي كلها مكونات مناعة مجتمعية ضد الأفكار المتطرفة، وخارجيا يجب تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لملاحقة شبكات التنظيم العابر للحدود، والتصدي للدعم المالي والإعلامي الذي يتلقونه من دول توفر لهم الملاذ والحماية.
فالإخوان، كما أثبت التاريخ، لا يؤمنون بالدولة الوطنية، بل يرون أنفسهم جزءا من مشروع أممي يتجاوز الجغرافيا والسيادة، ويعتبر الولاء للتنظيم مقدما على الولاء للوطن لذلك، فإن التعامل معهم بمنطق التسامح أو التعايش هو وهم خطير؛ لأنهم لا يتعاملون بندية مع الآخرين، بل بمنطق “التمكين”، ويمارسون “التقية السياسية” حتى يشتد عودهم، ثم ينقلبون على الجميع.
وقد آن الأوان لأن تدرك المجتمعات، خاصة في منطقتنا العربية، أن مواجهة هذا الفكر ليست مهمة الحكومات فقط، بل مسؤولية مشتركة للمثقفين والإعلاميين والمجتمع المدني، فالفكر المتطرف لا يزدهر إلا في الفراغات الثقافية والاجتماعية، وحين تتآكل الثقة بين المواطن والدولة ولذلك فإن بناء دولة المواطنة الحديثة، التي توفر لمواطنيها الكرامة والعدالة والمشاركة، هو أقوى رد على مشروع الإخوان وأمثالهم.
إن ما قامت به مصر في السنوات الأخيرة، من حماية مؤسساتها وإطلاق مشروعاتها وتثبيت أركان الدولة، ليس مجرد نجاح محلي، بل هو تجربة تستحق الدراسة والاستفادة منها عالميا، خصوصا من قبل الدول التي تواجه تحديات مشابهة من جماعات متطرفة تتدثر بالدين، وتسعى لاختطاف المجتمعات من داخلها.
إن التاريخ لن يرحم من يتخاذل في مواجهة مشروع كهذا، ولا من يبرر له أو يتهاون مع رموزه تحت أي ذريعة، فالإخوان لم يكونوا يوما جزءا من الحل، بل كانوا دوما جوهر المشكلة، ولن تنتصر الأوطان إلا عندما تحسن قراءة عدوها، وتتحصن بالوعي، وتبني مجتمعا قويا لا مكان فيه لمن يسعى لتفتيته تحت أي راية كانت.

