في مقابلة معها في الملحق الأدبي لصحيفة «الغارديان» البريطانية، نشرت بتاريخ 3/10/ 2020، تقول الكاتبة بتينا غاباه، ذات الأصل الكيني، إنها تعيد قراءة كتاب «تحرير العقل» لنغوجي واثيونغو، الذي رحل الأربعاء الماضي عن 87 سنة، مرة في السنة على الأقل، وذلك لأنه يساعدها على أن تتصالح مع لغتها الأصلية، وعلى فهم وضعها كنتاج لـ«عملية التعليم الكولونيالية». ليست وحدها في ذلك. فهذا الكتاب قد ترك أثراً بالغاً على الأجيال اللاحقة لواثيونغو في بلده كينيا، وقد احتل عن حق مكانة بارزة في دراسات ما بعد الكولونيالية على مستوى العالم، لمساهمته القيمة في تفكيك الخطاب الكولونيالي الثقافي، في بلدان الجنوب عموماً (أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية)، ومحاكمته الفكرية للأسس المضللة التي يستند إليها هذا الخطاب.
في هذا الكتاب، الذي جاء عنوانه الفرعي «سياسات اللغة في الأدب الأفريقي»، يرى واثيونغو أن اللغة، وليس التاريخ أو الثقافة، هي الشرط الضروري للوعي الإنساني، فـ«اختيار اللغة، واستخدامها، هما عاملان مركزيان في عملية تعريف الناس لأنفسهم، وفي علاقتهم بالوجود كله. وهو يعيد في الكتاب المذكور طبيعة الصراع في أفريقيا إلى حقيقته: نضال شعوب مستلبة من قبل الكولونيالية، بجيوشها، وثقافتها، وإعلامها، وشركاتها الرأسمالية، وصندوق النقد الدولي الذي يسميه (وزارة المالية العالمية الجديدة)».
إنه ليس صراع قبائل ضد قبائل، كما تروج وسائل الإعلام الغربية في تأويلات مضللة للوقائع الأفريقية، بل إن عملية اقتلاع الهوية الأصلية هي جوهر استراتيجية الانصهار الكولونيالية، كما يقول نغوغي واثيونغو في مقدمة كتابه «الإرث الكولونيالي في الأدب الكاريبي»: «الأفارقة في الأميركتين وفي الكاريبي يرون أن لغاتهم، أسماءهم، أدبهم قد تم الاعتداء عليها بشكل منهجي من قبل النظام الاستعماري، الهادف إلى تعزيز شعور الانتماء إلى القوة الاستعمارية».
وهو يتفق هنا مع ما استنتجه آشكروفت، وغريفثس، وتيفين في كتابهم «الإمبراطورية ترد بالكتابة» بأن «ثقافة ما بعد الاستعمار هي حتميّاً ظاهرة مهجّنة تشتمل على علاقة ديالكتيكية بين النظام الثقافي الأوروبي» المطعّم «وبين الوجود الأصلي، بدافعه لخلق أو إعادة خلق هوية ذاتية مستقلة… وهكذا فإن القراءة وإعادة كتابة السجل التاريخي والسردي هما مهمة حيوية لا يمكن الهروب منها في جوهر مشروع ما بعد الاستعمار»
وكان لنغوجي واثيونغو يؤمن، مثل الكاريبي ديريك والكوت، بأن التخلص من الإرث الكولونيالي لا يكمن في الهرب منه، بل في كشفه، وفهمه، ومن ثَمَّ مواجهته. وهو في ذلك يتفق أيضاً مع أغلب كُتّاب ما بعد المرحلة الكولونيالية. لكن ما يميزه مِن معظمهم، أنه لا يفكك الواقع لخلق إحساس بالهوية، كما يفعل النيجيري وول سوينكا أو سلمان رشدي مثلاً، بل يتحدى التاريخ، أو سلطة التاريخ، ليستعيد ما يسميه أحد النقاد «بذور الموروث»؛ ليزرعها في تربتها الأصلية من جديد.
هذه العودة إلى الماضي، كما ذكرنا، هي سمة مشتركة في أدب ما بعد الكولونيالية، لكن آخرين، مثل سوينكا، يرون أن «التوافق الثقافي»، بين المستعمِر – بكسر الميم – والمستعمَر – بفتحها – من دون نبذ التراث الكولونيالي، لا يمكن أن يقود إلى تحقيق الهوية، وإحياء آداب وطنية حقيقية، بل إلى إعادة سيادة الأول ثقافيّاً.
في «تحرير العقل»، يلخص واثيونغو كل ما شغله طوال حياته الأدبية والفكرية، وهي القضايا نفسها التي طرحها في أعماله الروائية والمسرحية، ابتداءً من روايته الأولى «لا تبكِ يا طفل»، الصادرة عام 1964، تحت اسم «جيمس نغوجي»، وهي أول رواية تنشر بالإنجليزية لكاتب من شرق أفريقيا. وقد كتبها وهو ما يزال طالباً في الجامعة. وتتألف الرواية من قسمين: القسم الأول ركز على قضية التعليم، والثاني على انتزاع أراضٍ زراعية واسعة من الفلاحين من قبل الاستعماري البريطاني والشركات الرأسمالية، مما قاد إلى انتفاضة كبيرة.
وجاءت روايته الثانية «حبة قمح»، التي كتبها عام 1967 أثناء دراسته العليا في جامعة ليدز البريطانية، أكثر نضجاً من الناحية الفنية، بالرغم من شهرة الأولى. وتعالج هذه الرواية المواضيع نفسها، التي شغلت واثيونغو طوال حياته، وظل يعيد إنتاجها بأشكال مختلفة: العنصرية، والنضال من أجل الاستقلال، والتبعات الثقافية والاجتماعية والأخلاقية التي أنتجها الواقع الاستعماري، وتغللت في أعماق المجتمع حتى صارت جزءاً أساسياً من بنائه وتركيبته، وواصلت تغلغلها بشكل غير منظور في سلوك وتفكير أبنائه. والرواية ليست ذات بعد واحد، بل تقدم وجهة النظر البريطانية والكينية على حد سواء. الكل يشعرون أنهم على حق. لكن في الجوهر تبقى الكولونيالية ممارسة غير أخلاقية، وأداة اضطهاد، قبل أن تكون أي شيء آخر. كما تفضح الرواية أولئك الكينيين الذين تبنوا، كما يحصل في بلدان كثيرة مستعمرة، وجهة نظر المستعمرين الذين كان يروجون بأن مهمتهم الأساسية هي «تحديث» كينيا، إدارياً وتكنولوجياً، بينما كانوا في الواقع يجرّدون بالقوة السكان الأصليين من مساحات واسعة من الأرض، تشكل مصدر وجودهم وحياتهم.
والفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث هي ما بين (1952 – 1960)، وهي الأعوام التي فرضت فيها حالة الطوارئ، عقب انتفاضة «مو مو». ويتداخل في الرواية، العالم شبه الأسطوري ممثلاً بموغو، المنعزل في قرية ثاباي، الذي يطارده سر رهيب، والذي يعتبر نفسه «موسى شعبه»، مع العالم الواقعي الممثل بأماكن وشخصيات حقيقية، وضمنهم جومو كنياتا، أول رئيس في تاريخ كينيا منذ استقلالها من الاستعمار البريطاني عام 1964 حتى وفاته عام 1978، إلى قصص جيكوتيو، ومومبي، وكرانجا، وكل منهم يحمل ماضياً بغيضاً.
ومن خلال كل ذلك، يتكشف السرد عن تواطؤات، ومساومات، وخيانات. إنه ينطلق في روايته هذه من المثل الكيني الذي يقول: «إن من يلدغك موجود في ملابسك» لكن الرسالة التي تريد أن توصلها «حبة قمح» هي أن الكولونيالية ليست ببساطة صراع بين أمتين، بل بين مثل أخلاقية: الإمبريالية الغربية مقابل التقاليد الكينية، والأفريقية عموماً.
في روايته الثالثة «النهر الفاصل»، وهي في الحقيقة روايته الأولى، لكنها نشرت بعد «لا تبكِ يا طفل» و«بحبة قمح»، يتناول واثيونغو قصة عاشقين، ومن خلال ذلك يصور لنا الصراع بين رجال الدين المسيحي المتعصبين والإيمان الشعبي التقليدي. وهي توحي من خلال ذلك، بأن محاولات تحقيق الوحدة بين المجموعات المختلفة ثقافياً عبر عملية التعليم محكوم عليها بالفشل في ظل استغلال الشركات الرأسمالية، الأجنبية والمحلية، للعمال والفلاحين.
إضافة إلى الرواية والكتابة السياسية، كتب واثيونغو للمسرح أيضاً، وكانت أولى مسرحياته «الناسك الأسود»، وبعد تحوله إلى الكتابة بلغة كيكويو، أصدر مسرحيته «سأتزوج عندما أريد». والطريف أنه اختار أن يكتب بهذه اللغة المحلية أولاً، ثم يتولى الترجمة بنفسه إلى اللغة الإنجليزية. ولعله يذكرنا هنا بالروائي والكتاب المسرحي كاتب ياسين، صاحب رواية «نجمة»، الذي اختار في عز شهرته في فرنسا بعد إصداره هذه الرواية، أن يستقر في مدينة بلعباس الجزائرية، ويكتب مسرحياته بالدارجة المحلية، كوسيلة لمحاربة «الاستعمار اللغوي».