في زمنٍ كثرت فيه الأصوات وقلّ فيه الصدى، بات بعض الناس لا يجدون ضوءهم إلا في عتمة الآخرين، ينتظرون سقوط المناصب كما ينتظر الصياد سقوط الطريدة، ليقفزوا بكلمات لا تحمل من الشجاعة إلا الاسم، ومن النقد إلا الضجيج.
تلك التي يُسمونها “شجاعة بعد الرحيل” ليست شجاعة، بل طعنات في ظهر الوقت، ووشايات بأثر رجعي، يُطلقها من لم يملك قولها حين كان الصوت مكلفًا، فأرجأ الصراخ إلى ما بعد الصمت، ليضمن لنفسه تصفيقًا رخيصًا من جمهور لا يدقق في التوقيت بقدر ما يهتم بالجرأة المصطنعة.
الشجاعة الحقيقية لا تنتظر خلوّ الكرسي، ولا موت صاحبه، ولا استقالة المتهم من موقعه، الشجاعة تسكن اللحظة، وتواجه الوجوه لا الظهور، تقول كلمتها أمام المدير، لا بعد أن يتحول إلى رجل عادي في الشارع.
أما أولئك الذين يتقمصون دور البطولة بعد أن تُسحب الستائر، فليسوا سوى ممثلين هواة، دخلوا المسرح بعد انتهاء العرض، وراحوا يصرخون في مقاعد فارغة، علّهم يُسجلون موقفًا متأخرًا على منصة مبنية من وهم.
حين تصير الجرأة انتهازًا، والموقف مؤجلاً إلى ما بعد الأمان، تسقط هيبة الكلمة، وتذوب أخلاقيات النقد في إناء التشفي، فالنقد الشريف لا يتغذى على سقوط الغير، بل يُقال في وقته، ولو كلف صاحبه كثيرًا، أما حين يتحول إلى سيف لا يُشهر إلا بعد المعركة، فهو ليس سيفًا، بل خنجر جبان.
كم من صوتٍ صمت طيلة سنوات، ثم راح ينبش في الذاكرة، يروي حكاياته عن ظلمٍ عاشه، أو فسادٍ شهده، فقط حين تأكد أن “المدير” أو “رئيسه في العمل” غادر ولا أحد سيحاسبه على الصراخ، وكم من كاتب لم يكتب إلا بعد أن جفّ الحبر، وهدأت العواصف، فعاد ليتظاهر بأنه كان يقف على الضفة الأخرى، وهو في الحقيقة لم يغادر الضفة الآمنة يومًا.
الناس تحفظ جيدًا من تكلم حين كان الصمت فضيلة، وتعرف من صمت حين كان الكلام رجولة، أما من يتحدث بعد انفضاض المجلس، فهو أقرب للثرثار الذي ينتقد الطعام بعد أن يأكل الطبق كله، لا اعتراضًا على الطعم، بل ليثبت أنه كان أذكى من الآخرين في تذوق الخطر دون أن يبتلعه.
الشجاعة ليست أن تهاجم من سقط، بل أن تواجه من يقف، أما بعد أن تغلق الملفات، وتصمت الأسماء، ويغادر القطار، فالهتاف لا يصنع مجدًا، بل يكشف نفاقًا.
فليحفظ كلٌ منا لسانه من التشفي، وقلمه من التوقيت المفضوح، لأن الكلمة التي تأتي بعد فوات الأوان، لا تُصلح موقفًا، بل تفضح نية.