في أجواء يسودها الهدوء والانضباط، وتغمرها رهبة المسؤولية، انطلقت امتحانات الثانوية الأزهرية لهذا العام، بعد عام دراسي حافل بالجد والاجتهاد، تميز بكثافة المناهج وعمق المحتوى العلمي وروح الانتماء، لمنظومة تعليمية عريقة تجمع بين الشرعية والعلمية، معلنة بداية لحظة فاصلة في مسيرة طلاب اجتهدوا عامًا كاملًا بين صفحات الكتب، وأروقة المعاهد، وجلسات العلم التي تتشابك فيها مختلف العلوم، وتمثل هذه الامتحانات وقفة وجودية بين العقل والروح وما تعلمه الطالب ويمارسه، وبين ما حمله في ذهنه من معارف، وما اكتنز في وجدانه من قيم وممارسات ومواقف حياتية.
وقد بدأ الطلاب في شتى المحافظات أداء اختباراتهم وسط متابعة دقيقة وإشراف كامل من قيادات الأزهر الشريف، الذين يحرصون على أن تمر هذه المرحلة الفاصلة بحياة الطلاب في أجواء يسودها النظام والعدل، وتُحترم فيها الجهود المبذولة على مدار عام كامل من التحصيل والمذاكرة، حيث تمثل هذه الامتحانات في الوجدان الأزهري قيمة تربوية فهي تتويج لمسيرة علمية بدأت بحفظ وتدارس وتدبر كتاب الله تعالي القرآن الكريم، وتستكمل عبر دروس الفقه واللغات وعلي راسها اللغة العربية والمنطق والعقيدة والعلوم التطبيقية، وأيضًا اختبار لقدرة الطالب على أن يكون أهلًا للعلم الذي يحمله، وأمينًا على الأمانة التي بين يديه، فالعلم أمانة والتربية رسالة، ومنارة الأزهر ستظل شاهدة على قدرة الأمة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الجذور والآفاق.
ويتميز التعليم الأزهري بخصوصيه ورؤية شمولية تمتد ترى الإنسان مشروعًا متكاملًا، فحين يدخل الطالب إلى قاعة الامتحان يُستدعى تاريخه الدراسي واستعداده النفسي ورسوخه الأخلاقي وعمق إدراكه لطبيعة الطريق الذي يسلكه، بوصفه حاملًا لأمانة ومؤدي لها يسهم في نهضة وطنه، وقد أعدت المؤسسة الأزهرية العدة لتكون الامتحانات نموذجًا في الانضباط والعدالة، حيث تعمل لجان المراقبة بروح المسؤولية، والإشراف الفني والإداري متوفر، والطلاب يُعاملون بكرامة واحترام، في بيئة تعكس القيم التي يتعلمونها على مدار أعوام؛ ليكون التقييم امتدادًا طبيعيًا لمسار تربوي أصيل، ومن المبهج أن نرى تلك الروح تسود الأجواء فتتلاشى مشاهد الفوضى والتوتر، لتحل محلها الطمأنينة، والإحساس بالعدالة، والرغبة في أن تكون هذه المرحلة خطوة واثقة نحو المستقبل.
وتمثل الأسرة المصرية بكل عظمتها وما تحمله من حب وقلق وترقّب لمستقبل الأبناء، الشريك الخفي للطلاب شريك لا يغيب، وإن بقي خلف الأسوار ينتظر وكأن الامتحان اختبار للأسرة كلها، وتُظهر مشاهد الصباح عند أبواب اللجان مثالًا حيًا على هذه الشراكة، حيث تقف أُسر كاملة تدعو، وتدعم، وتشد على أيدي أبنائها، في لحظة تتويج للتنشئة والتعليم والتربية ويكشف هذا الحضور العاطفي العميق عمق العلاقة بين المؤسسة التعليمية والأسرة، فما يُبنى في الصف يغذى بالمنزل من قيم ودعم نفسي.
وقد يتحول هذا الدعم أحيانًا إلى ضغط نفسي غير مقصود، نتيجة القلق المفرط على مستقبل الأبناء، فالأسرة المصرية تعيش حالة من التوتر خلال هذه المرحلة، باعتبارها مرحلة عنق الزجاجة وتشكل بوابة المصير الذي يُرسم على ضوئه المستقبل الأكاديمي والمهني والاجتماعي للطلاب؛ لذا نوجه لهم نداءً بضرورة التحلي بضبط النفس وتوفير مناخ نفسي داعم يعين الطلاب على التركيز والتحصيل بثبات وثقة، وهنا تظهر الحاجة الماسة إلى وعي أسري يوازن بين التطلعات والواقع، بين الطموح والقدرة، وبين الرغبة في التميز والقبول بالفروق الفردية.
ووسط هذه الأجواء يقف الطالب الأزهري في مواجهة دقيقة مع نفسه ومع ما تعلمه، إذ يدرك بوعي عميق أن ما يبذله من جهد اليوم يرسم ملامح مستقبله العلمي والمهني أن النجاح لا يُقاس بالانتقال إلى المرحلة الجامعية، ولكن هو عبور نحو نضج جديد، وتحول في الوعي، وتشكل أعمق للذات واختبار لإدارته لوقته، ولحسن تنظيمه لأولوياته، ولمدى قدرته على الثبات تحت الضغط، واستحضار ما تلقاه من معارف في لحظة مفصلية لا تحتمل التردد.
وفي ظل طبيعة المناهج الأزهرية الغنية والمركبة، التي تجمع بين الحفظ العميق، والفهم الدقيق، والربط المنهجي، والتحليل والاستنتاج، يغدو هذا الامتحان تمرينًا متكاملًا على التفكير المتزن، والاندماج المعرفي، والتماهي مع منظومة فكرية وروحية متماسكة، فالحفظ وحده لا يكفي، كما لا يُجدي الفهم المجتزأ، بل يُستدعى العقل التأملي القادر على النقد والبناء، والربط بين المفاهيم، واستحضار المعاني، والتعبير عنها بدقة واتزان، وهذا يتطلب حضورًا ذهنيًا ووجدانيًا متكاملًا، فالعقل وحده لا يصمد، ما لم يسانده قلبٌ مؤمن، ونفسٌ مطمئنة، وروحٌ مشبعة بالمسؤولية، تدرك أن الامتحان محطة تأسيس في رحلة الإنسان نحو بناء الذات.
وتبقى الحاجة ملحة إلى التحفيز الذاتي، باعتباره الفارق الدقيق بين التفوق والجهد المجرد. فحين يمتلك الطالب القدرة على استحضار حلمه، وربط مستقبله بالحاضر، وتذكير نفسه بأسباب السعي وغاية الوصول، يحول كل ذلك إلى طاقة داخلية تعينه على تجاوز الصعاب، عندها تُصبح المذاكرة فعلًا إنسانيًا راقيًا، لصقل الذات، وإعادة تشكيلها، وتأكيد إيمانها بقدرتها على التغيير والنمو والنجاح وإحداث الفارق.
وبالتوازي مع هذا الجهد الداخلي للطلاب، تبقى الأسرة مطالبة بدور أكثر وعيًا واتزانًا، فالدعم الحقيقي يكون بالاحتواء تعزيز الثقة في القدرة على النجاح وبحضور هادئ مطمئن، إن كلمات بسيطة تُقال في الصباح قبل الذهاب إلى اللجنة، أو لمسة يد صادقة، أو نظرة مليئة بالطمأنينة، قد تصنع الفارق في لحظة الحسم. ففي هذه الأيام الثقيلة بالمراجعات يحتاج الطالب الإحساس بأنه محبوب، مقدر، مُحتفى بإنسانيته، أن يُحتضن لجهده، ولصبره، ولأنه ببساطة يُحاول، ويجتهد، ويُكمل المسير لتحقيق أهدافه.
ونستطيع القول إن امتحانات الثانوية الأزهرية ليست عبئًا، ولكن فرصة حقيقية للتكامل الإنساني والتربوي، وبين الإنسان وذاته، فالامتحان هنا منحة تربوية تتجاوز حدود الورقة والقلم، إلى فضاءات أوسع من التكوين الإنساني المعرفي والوجداني وحين يقدم الأزهر الشريف أبناءه إلى هذا الاختبار، يصعد بهم إلى مقام من مقامات النضج ويسلمهم إلى الحياة وقد تزودوا بأدوات الفكر والتأمل والتدبر، وبالقدرة على صناعة الأثر في واقعهم ، فطلاب الأزهر يُقاسون بما يحملونه من نور في زمن التيه، وبقدرتهم على الجمع بين وضوح العقل ونقاء القلب، بين دقة العلم وسعة الأخلاق، فهم شهادة الأزهر الحية بأن الإنسان يمكنه أن يكون عالمًا ومتزنًا، مفكرًا ومتواضعًا، عقلًا ناضجًا وروحًا رحيمة، حاملًا لرسالة العلم والحياة معًا.
وندعو الله أن يوفق أبناءنا وبناتنا، وأن يبارك في سعيهم وأن يسدد خطاهم، ويجعل هذه الأيام المباركة حصادًا لجهدهم، وبداية لمستقبل واعد يليق بهم وبعلمهم ونُبل غاياتهم وأن يكون نجاحهم لبنة في بناء الذات، ومَعبر نحو آفاق أرحب من النضج والعطاء ويبقي في القلب يقينًا بأن لكل تعب ثمرة، ولكل مجتهد نصيب.
__________
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر