في مؤسسات كثيرة، يدور همس بين العديد من الموظفين، خاصةً الأكفاء، حول مديرٍ لا يُطاق، يُطفئ الحماسة ويهدر الطاقات، ويزرع التوتر أكثر مما يصنع النجاح. تكثر الشكاوى، وتغيب الحلول، ويبقى السؤال معلقًا في أذهان هؤلاء الموظفين: لماذا تمنح الشركات المدير السيء الحصانة؟ فارقة مؤسسية تدمر بيئة العمل.
هل هو سوء تقدير؟ أم أن هناك ما هو أعمق من مجرد ضعف في الرقابة؟
هذا المقال ليس فقط بحثًا عن إجابة، بل هو محاولة لفهم مفارقة مؤسسية متكررة، تطرح سؤال كيف يتحول من يقتل روح الفريق إلى “أصل ثمين” في نظر الإدارة؟
وفقًا لبحث نشرته Harvard Business Review، لا يُقاس المدير السام بسوء سلوكه فقط، بل بتأثيره السلبي الشامل على بيئة العمل، من ارتفاع معدلات الاستقالات إلى تدهور الصحة النفسية للموظفين وانخفاض الإنتاجية. كما يؤكد البحث أن “الموظف لا يترك الوظيفة.. بل يترك المدير”.
أثناء بحثي في هذا السؤال، لجأت إلى”ChatGPT”، ليس بحثًا عن إجابة جاهزة، بل لاختبار فرضياتي ومقارنة ما أراه في الواقع مع تحليلات محايدة؛ وجدت الإجابة مثيرة للاهتمام، حيث سلطت الضوء على أسباب غالبًا ما تُغفل في النقاشات التنظيمية، منها:
قد تركز الإدارة على المكاسب قصيرة الأجل، تحقق بعض المديرين السيئين نتائج رقمية جيدة، فتتجاهل تأثير المدير السيء على الروح المعنوية، والابتكار، والاحتفاظ بالكفاءات، ما يؤدي إلى تآكل الأداء على المدى الطويل، هذا بالإضافة إلى أن بعض المديرين يحتفظون بمناصبهم بسبب علاقاتهم الشخصية مع الإدارة العليا، أو لأنهم يُنظر إليهم على أنهم موالون للنظام القائم، حتى وإن كانوا غير أكفاء إداريًا.
كما أن المنظمات قد تتردد في اتخاذ قرارات تغييرية خشية التأثير على الاستقرار، خاصة إذا كان المدير يشغل منصبًا حيويًا يصعب شغله بسرعة، أو لا يوجد بديل جاهز ومؤهل.
في بيئات العمل التي تفتقر إلى آليات واضحة للتقييم والتغذية الراجعة قد لا يسمع صوت الموظف المظلوم، مما يجعل سلوك المدير السيء غير مرصود رسميًا، أو غير موثق بما يكفي لاتخاذ إجراء ضده، يمنح البعض حصانة غير مبررة.
هذا بالإضافة إلى الروابط الشخصية قد تحمي من لا يستحق البقاء، أو إذا كانت ثقافة المؤسسة نفسها تشجع على السيطرة والهيمنة أو لا ترى مشكلة في الترهيب كأسلوب إداري، فإن المدير السيء لا يُعد مشكلة بل ربما يُكافأ على “صرامته”.
كما قد يرجع أحد الأسباب إلى قدرة المدير على التسويق لنفسه بشكل جيد تجعل الإدارة تتمسك به بأنه خبرة لا يمكن تعويضها، رغم أن بقاءه يطرد المواهب ويقتل روح الفريق كما أن بعض المديرين بارعون في تزييف الحقائق أو تبرير فشلهم بلوم الفريق، مما يجعل الإدارة تنظر إليهم كضحايا لا كسبب للمشكلة.
في بيئات العمل، يُعد المدير السيء تحديًا كبيرًا يؤثر سلبًا على الأداء العام، ويهدر طاقة الموظفين، خاصة الأكفاء منهم، ويُضعف الروح المعنوية داخل الفريق، والإبقاء على المدير السيء غالبًا ما يكون نتيجة توازن مشوه بين النتائج والسلوك، وضعف في نظم الرقابة الإدارية، أو ثقافة مؤسسية مختلة، هذا الوضع يترك أثرًا سلبيًا كبيرًا على المُناخ الداخلي لبيئة العمل، ويزيد من معدلات الاستقالة وتراجع الأداء المؤسسي على المدى البعيد؛ فالمؤسسات التي تريد أن تنجح حقًا، لابد أن تراجع معاييرها، وتعيد التفكير في من يقود فريق العمل، وتضع صحة بيئة العمل على رأس أولوياتها.
إن الإبقاء على مدير سيء، مهما كانت المبررات، هو رهان خاسر على المدى الطويل؛ فالمؤسسات التي تسوق الاستبداد الإداري كحزم، وتكافئ السيطرة بدل القيادة، تدفع ثمنًا باهظًا لا تراه في دفاتر الحسابات؛ أهمها تسرب الكفاءات، ارتفاع معدلات التغيب والإجازات المرضية، تراجع الانتماء والولاء، ضعف روح المبادرة والابتكار، تزايد الشكاوى والصراعات الداخلية، واختناق بيئة العمل، وهذه مؤشرات يصعب رصدها ماليًا لكنها تدمر المؤسسة تدريجيًا.
النتائج قصيرة الأمد قد تُبهج، لكنها لا تبني مؤسسات ناجحة، أما المديرون الذين يُرهقون فرقهم ويخدعون إداراتهم، فهم ليسوا أصولًا تُحمى… بل قنابل موقوتة تفتك بثقافة المؤسسة من الداخل، أن بقاء المدير السيء ليس مجرد مشكلة إدارية عابرة، بل خطر إستراتيجي قد يهدد مستقبل المؤسسة.
لكن، هل المشكلة بلا حل؟
الحقيقة أن بقاء المدير السيء ليس قدرًا لا يُمكن تغييره. هناك خطوات بسيطة لكن فعّالة يمكن أن تُحدث فرقًا حقيقيًا، لو تبنتها المؤسسات بجدية. أولها أن تُعيد الإدارة النظر في طريقة تقييم المديرين؛ فلا تكتفي بالأرقام والنتائج السريعة، بل تُضيف إليها مؤشرات تخص الأثر الحقيقي على الفريق، مثل الروح المعنوية، والتعاون، واستقرار الموظفين.
من المهم أيضًا أن يشعر الموظفون بأن صوتهم مسموع، وأن لديهم مساحة آمنة للتعبير عن مخاوفهم أو الإبلاغ عن التجاوزات، دون خوف من العواقب، بيئة الشفافية تصنع فرقًا كبيرًا.
كذلك، لا بد من توفير تدريب مستمر للمديرين، لا يقتصر على المهارات الفنية، بل يشمل مهارات التواصل، وبناء فرق العمل، والتحفيز، وفهم طبيعة العلاقات الإنسانية داخل بيئة العمل.
ولا تقل أهمية عن ذلك، ضرورة وجود معايير واضحة وعادلة لاختيار المديرين واستمرارهم في مناصبهم، بعيدًا عن العلاقات الشخصية أو النجاحات المؤقتة؛ فالقائد الحقيقي ليس من يحقق الأرقام فقط، بل من يصنع بيئة عمل تُحقق النجاح مع الفريق، لا على حسابه.
وأخيرًا، على المؤسسات أن تتبنى نظرة طويلة المدى، تفكر في الاستدامة وجودة بيئة العمل، لا مجرد الأرقام اللحظية؛ فالمؤسسة الناجحة حقًا هي تلك التي تهتم بالإنسان كما تهتم الأرقام، وتُراهن على الثقة، لا الخوف.

