جوزيبي تورناتوري: ساردٌ للأحلام والذاكرة
في 27 مايو 1956، وُلد في بلدة باجيريّا الصقلية، قرب باليرمو، صوتٌ سيصبح لاحقاً من أعذب الأصوات في سرد الحكايات السينمائية الإيطالية: جوزيبي تورناتوري. واليوم، إذ نحتفي بعيد ميلاده الثامن والستين، نحتفي أيضاً بذاكرة سينمائية حيّة ما تزال تنبض بالجمال والدهشة، تارةً من خلال الملامح الدافئة لطفل في قرية تكتشف السينما كما في “سينما باراديسو”، وتارةً عبر أنامل تطوف على مفاتيح بيانو في قلب المحيط كما في “أسطورة 1900”.
فيلم “أسطورة 1900” الذي أنجزه تورناتوري عام 1998، يبقى، بعد 27 عاماً، عملاً سينمائياً فريداً لا يُشبه غيره. فهو ما يزال يحتفظ بطراوته، بشاعريته، وبسحره الروائي والبصري، كأن الزمن قد توقف لحظة عزفه لأول مرة.
حكاية أسطورة: بين الحقيقة والخيال
القصة، ببساطتها وعمقها، تحمل في جوهرها كل ما يجعل منها أسطورة؛ فعلى متن باخرة عابرة للأطلسي في مطلع القرن العشرين، يُعثرُ على طفل رضيع متروك فوق آلة البيانو في صالة الاحتفالات التي خلت من روّادها بعد ليلة احتفالية على رأس القرن الجديد. العجوز الذي عثر عليه يتبنّاه، ويسميه “1900”. يكبر الطفل على متن السفينة، لا يعرف اليابسة، لا يُسجّل في أي سجل، لكنه يُتقن العزف على البيانو حدّ العبقرية. وبينما تتاح له فرصة النزول والاحتفاء العالمي، يرفض 1900، لأنه أدرك أن اتساع العالم الحقيقي أكبر من أن يُحتمل.
يسرد القصة صديقه وعازف البوق ماكس، بصوته وذاكرته. السرد هنا ليس فقط وسيلة نقل الأحداث، بل أداة لخلق الزمن والخيال، كما لو أن القصة نفسها تنبعث من نغمة مرتجلة لجاز لا ينتهي.
رهان السينما الملحمية الشعرية
الفيلم مقتبس عن مونولوج مسرحي من تأليف أليسّاندرو باريكّو، وكان التحدي الأكبر أمام تورناتوري أن يحول هذا النص الأدبي الحي إلى عمل سينمائي بصري متكامل. لكنه لم يكتفِ بالاقتباس، بل خلق بُعداً جديداً للنص، عبر صورٍ مشبعة بالمشاعر وبموسيقى تُنطق الصمت، وأماكن تتحول إلى استعارات.
ضوءٌ وتصويرٌ يجسدان الروح
العالم الذي صنعه تورناتوري داخل السفينة لا يقل سعةً عن المحيط ذاته. الكاميرا تتحرك برفق، مثل موجة ناعمة. الضوء الذي استخدمه مدير التصوير لايوس كولتاي يذكّرنا باللوحات الزيتية: دافئ، خاف