تمر المنطقة العربية بتحولات جيوسياسية واجتماعية غير مسبوقة في الوقت الراهن، وضمن تلك التحولات تغيرت أفكار وأوضاع بدت مستقرة لعقود طويلة، وقد أدى ذلك إلى تطور كبير في المفاهيم والمواقف، وهو الأمر الذي انعكس على الخطاب السائد في المجال العام بكل تأكيد.
وضمن هذا الخطاب ستبرز بقوة تفاعلات «السوشيال ميديا» العربية التي تكسب أرضاً جديدة في الواقع المعيش يوماً بعد يوم، وتتحول باطراد من كونها تعكس ما يجري في الواقع الافتراضي، ضمن آليات الإعلام الموازي، إلى كونها صورة عن الواقع الفعلي، وبديلاً عن الإعلام الرئيسي.
ورغم توجيه كثير من الانتقادات للتفاعلات التي تجري عبر وسائط «السوشيال ميديا» المختلفة، فإنها تنطوي على فوائد كبيرة أيضاً؛ وضمن تلك الفوائد ستظهر قدرة واضحة على تطوير الخطاب النقدي الذي يحلل المواقف الحادة، ويكشف تناقضاتها، مُستعيناً بديناميات التفاعل نفسها، والممكنات المُذهلة التي تتمتع بها تلك الوسائط، وخصوصاً ما يتصل بالقدرة على الإثبات وعرض الحقائق بالنص والصوت والصورة.
ومن بين الإشراقات الجديدة لتفاعلات وسائط «السوشيال ميديا»، سيبرز مُصطلح «الاستشراف» الذي أعاد قطاع من المستخدمين تأهيله وتأويله، لتتغير دلالته من كونه تعبيراً عن معاني التحري والاستكشاف والتوقع والتنبؤ بالمستقبل، استناداً إلى أدلة ومنهجية علمية، إلى كونه تعبيراً عن فكرة ادعاء الشرف.
وفكرة ادعاء الشرف قديمة في اللغة والتراث العربيين، وهي تتعلق بهؤلاء الذين يدَّعون نَسباً أو صلة بالأصيل والطاهر والساطع، أو هؤلاء الذين يعاينون ما يفعله الآخرون، ثم يحقرونه وينتقدونه، ويدَّعون القطيعة معه، عادِّين أنفسهم أعلى وأشرف من التورط فيه.
وضمن التحولات التاريخية التي تجري في المنطقة العربية راهناً بلا هوادة، برزت ادعاءات دينية وعرقية وقومية وسياسية واجتماعية كثيرة، وحاولت أطراف كثيرة، سواء كانت دولاً، أو جماعات، أو قطاعات من المستخدمين، تكريس نفسها في الموضع الأعلى والأطهر والأكثر اتساقاً مع القيم المُدَّعاة، عبر نبذ الآخرين، وإقصائهم، أو ذمهم وتجريحهم.
وقد توافق قطاع كبير من مستخدمي الوسائط الجديدة على استخدام مصطلح «الاستشراف» لوصف هؤلاء الذين يدَّعون الشرف ويجرِّدون الآخرين منه، وهؤلاء لم يكتفوا بذلك، ولكنهم أيضاً استخدموا ممكنات الوسائط نفسها في كشف عوار حجج هؤلاء «المُستشرفين»، وفضح تهافتها، عبر استخدام الأدلة المُفحمة.
ومن ذلك، أن دولاً وتنظيمات وأفراداً ادَّعوا مراراً مواقف معارضة ومعادية للغرب وإسرائيل، ولطَّخوا سمعة الآخرين الذين انتهجوا نهجاً مختلفاً، قبل أن يتخذوا مواقف مشابهة لما عارضوه لعقود، وهنا تم وصمهم بـ«الاستشراف».
سيبرُز ضمن هؤلاء أيضاً من أصر على أفكار المقاطعة، وراح يطعن في كرامة مَن لا يلبي دعواتهم وفي وطنيته أو دينه، بينما هم في الواقع غارقون في التعامل مع منتجات وخدمات ينتجها الغرب، وتُسخَّر بعض عوائدها لنصرة إسرائيل.
أو هؤلاء الذين يدَّعون الفضيلة الدينية، ويقدِّمون أنفسهم على أنهم أعلى أخلاقياً، وأكثر التزاماً بمفاهيم دينية معينة، تؤطر سلوكهم، ولكنهم في الواقع ينخرطون في ممارسات بعيدة كل البعد عما يدَّعونه، وهنا ستكون لسعات مستخدمي «السوشيال ميديا» النابهين لهم قاسية؛ خصوصاً عندما يتم تذكير الجمهور بهنَّاتهم وسقطاتهم المدعومة بأدلة الصوت والنص والصورة.