«الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» عبارة ليست عابرة، بل هي موروث يمكن البناء عليه. في زمن مزامير الاختلاف وترانيم الخلاف أصبح الناس يتجهون إلى الخلاف في أبسط أوجه الاختلاف في الرأي، ومنها تشتت النخب السياسية والثقافية وحتى التعليمية الأكاديمية، والأخيرة تنهج منهجاً علمياً في الاختلاف، مما جعل صعوبة في أي حوار يمكن أن ينشأ بين أطراف مختلفة الرؤى والآراء. (الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء) هذه كانت كلمات مهاتما غاندي رجل المقاومة بالسلام.
وفي الحديث عن الفرق بين الاختلاف والخلاف، ذهب اللغويون للقول إن «الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفاً، والمقصود هو واحد، وأما الخلاف: فهو أن يكون كلاهما مختلفاً». ونظراً لأن أزمة الحوار تقع بين الاختلاف والخلاف في الآراء، فيصبح من الضروري معرفة السبب والمسبب في نزعة الاختلاف أو الخلاف في الحوار الذي هو دليل على حراك فكري مجتمعي يعبر عن الميول والتوجهات الشخصية المختلفة والمتنوعة، ويثري التجربة الإنسانية، شريطة أن يستند إلى تجارب وأسانيد، وليس بالضرورة أن يكون صواباً بالمطلق في جميع مواطنه، ولو أن الجميع اقتنع أنه لا أحد يملك الصواب في الرأي بالمطلق لوحده، والخطأ ليس من نصيب غيره، دائماً يكون شعاره «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، فحينها يسهل الحوار والنقاش، ويبقى فقط ضمن دائرة الاختلاف والتنوع، ولا يتحول إلى خلاف وخصام وعداوة قد تحتكر الوطن في مفهوم البعض، ففي وطني ليبيا اليوم أي حوار أو نقاش أو حتى جدال ينتهي باختلاف للرأي يكون مصير أصحابه الخلاف والقطيعة واللعنة والكره والحقد، وأحياناً التخوين والاقتتال؛ بسبب انعدام ثقافة تقبل الاختلاف والتنوع في الآراء، والقبول بأن الوطن أنا وأنت وليس «أنا أو أنت»، وللأسف هذا المناخ في أي اختلاف.
وهذا الأمر نتج عن حالة استقطاب حاد تحوّل فيه اختلاف الآراء إلى خلاف وعداوة وخصومة، في حين أن الحرية التي هي أساس النظام الديمقراطي تتيح حرية الاختلاف، فالديمقراطية ترتكز على احترام الرأي الآخر والقبول بسيادة القانون. وفي حالة رفض السماع للرأي الآخر والإقرار بحق اختلافه تتزعزع إحدى ركائز النظام الديمقراطي، فالمرء لا بد له أن يخاطب نفسه ويتواصل معها قبل أن يتواصل مع الآخرين ليضمن نجاحه، فالتواصل الناجح مع المجتمع ينطلق من خلال التواصل الداخلي والتحاور مع النفس، وحتى الاختلاف معها لتهيئتها لقبول آراء أخرى، وكما قيل: «حين يبدأ المرء الخلاف مع نفسه، تصبح له قيمة نحو البدء في إصلاح النفس…». وهذا يعطينا فكرة نحو التفكير بطرق مختلفة حتى مع النفس، وهذا يسمح للشخص لوحده أو مع آخرين باستخدام ما يعرف بإمطار الدماغ Brain storming أو ما اصطلح عليه بـ«العصف الذهني»، وهي عملية يحاول الفرد من خلالها إيجاد حل لمشكلة، وهذا يسمح بتجديد الأفكار والآراء المختلفة وتنوعها، مما يسهل فكرة قبول الرأي الآخر، والتفكير بمنطق التفكير خارج الصندوق، والابتعاد عن حصر الذهن في قوالب وآراء فكرية جامدة ليس فيها روح ولا ديناميكية تجعلها تواكب العصر وترضي الجميع.
اختلاف الآراء له قيمة مجتمعية في تنوع الفكرة وتنوع الحلول؛ لأن المجتمع في الأصل متنوع ومختلف وليس نسخة كربونية واحدة، فالاختلاف مناخ صحي للديمقراطية، ولكن حين يشيع الرأي الأوحد يصبح ذلك مناخاً خصباً لظهور الديكتاتورية، في نتيجة للخوف من الرأي الآخر، ورفض حتى الاستماع إليه، وحينها ننشد مزامير الاختلاف، ونرتل ترانيم الخلاف في انتظار بدء الصراع. ولعل خلاف الأمة التاريخي بدأ منذ اتساع رقعة الحَجر على الفكر وحرية الرأي، والتخبط والفوضى والمراهقة وعدم النضوج الفكري لاستيعاب الاختلاف في الرؤى، في حين مصلحة الوطن تستوجب أن يكون خارج تغطية فوضى الخلافات النفعية الخاصة، فتلك انتهازية واستبداد فئوي.
في ظل تفشي حالة التصحر الفكري كالتصحر الجغرافي بسبب (النخبة) التي جلها ضمن حزب الكنبة وموقف المتفرج على ما يحدث من اختلاف، والاكتفاء بالصمت مع قليل من الثرثرة أحياناً، والتي تستثمرها لتحقيق مكاسب فئوية خاصة تجعل منها رهينة ترانيم الاختلاف.