الثابت في الرأي العام التونسي أن كل ما يمس مجلة الأحوال الشخصية فإنه من غير الممكن أن يمر مرور الكرام، ويتفاعل معه باللامبالاة والتجاهل. فهي المجلة التي أصدرها الزعيم الحبيب بورقيبة في صائفة سنة 1956، وبعد أقل من ستة أشهر من نيل تونس الاستقلال، وتمثل سرّاً غالياً على المجتمع التونسي، وكلما تعرضت لمحاولة المساس ببند من بنودها، فإن النخب تتحرَّك على نحو غير مسبوق حتى إنك لا تتردد في الاستنتاج بأن أكثر شيء يمكن أن يوحد التونسيين إنما هو: مجلة الأحوال الشخصية.
لا يتسع المقام لعرض تاريخ محاولات المساس بهذه المجلة، الإرث العزيز على التونسيين، ولكن ما ينطق به تاريخ العقود السبعة تقريباً أنه تاريخ لم يخلُ من محاولات عرفت جميعاً الإحباط. وليست مبالغة إذا قلنا إن أي عاقل في أي موقع من مواقع إدارة الشأن العام أو ينتمي إلى جهاز من أجهزة السلطة الثلاثة، إلا ويدرك بحكم الخصوصية التونسية أن كل مشاركة سياسية لا تحترم مجلة الأحوال الشخصية لا مستقبل سياسياً لها.
هكذا هي البنية السياسية والاجتماعية في تونس.
فما الدافع الجديد الذي خلق جدلاً قوياً حول مجلة الأحوال الشخصية حالياً، والذي أثار حفيظة المجتمع المدني والحقوقي بمختلف أطيافه؟
يتعلّق الأمر بكل وضوح بمبادرة تشريعية من مجلس نواب الشعب التونسي وقّع عليها 105 نواب من البرلمان تهدف، كما تم تقديمها، إلى تنظيم مهنة عدول الإشهاد التي لم تشهد تطويراً ولا تعديلاً منذ نحو 31 سنة، وينص مشروع هذا القانون على السماح بأن يكون الطلاق بالتراضي لدى عدل إشهاد. وجاء في شرح أسباب هذه المبادرة كما تم تداولها – أي الأسباب – في وسائل الإعلام أنَّ الهدف هو تخفيف الزمن القضائي وتخفيف العبء على القضاة، باعتبار أن ملفات طلب الطلاق تعد بالآلاف. كما حاول بعض أصحاب هذه المبادرة إرسال رسائل طمأنة مفادها أنَّ عملية الطلاق بالتراضي تكون بتحرير محضر لدى عدل الإشهاد بعد اتفاق الطرفين على جميع الحقوق والواجبات، مشيراً إلى أنه سيتم العمل على حماية الأسرة وضمان حقوق الأطفال القُصّر.
طبعاً ولاعتبارات مهنية، فإنَّ هيئة عدول الإشهاد استبشرت بالمبادرة لما تمثله من مصدر عمل سينقل وضع عدول الإشهاد نقلة نوعية مادياً، خاصة أنَّ ظاهرة الطلاق في ازدياد في تونس.
إذن، المبادرة التشريعية تسعى إلى سحب ملف الطلاق من المحاكم إلى مكاتب عدول الإشهاد، وهذا يتضمن مسّاً واضحاً بفكرة أساسية ومبدأ أساسي من مبادئ مجلة الأحوال الشخصية، الشيء الذي يفسر ردود الفعل الرافضة لهذه المبادرة، والواصفة إياها بالخطيرة، سواء من الجمعيات النسائية أو حتى عمادة المحامين، وغير ذلك.
وفي الحقيقة، فإنَّ هذه المبادرة التي تبدو في ظاهرها تقدم حلاً لاكتظاظ المحاكم وطول القضايا المتعلقة بالطلاق، فإنَّها تغاضت عن أنَّ هذه الحلول تمثل ضربة لروح مجلة الأحوال الشخصية، ومن ثمة فإنَّ الحلول لا يمكن أن تكون بضرب مكسب أن يكون الطلاق شأناً خاصاً بالمحاكم، وهو مكسب يقوم على دعامة تاريخية.
أيضا تحمل هذه المبادرة التباساً باعتبار كونها تركز على قضايا الطلاق بالتراضي، وفي الحقيقة هذا النوع بالذات من الطلاق لا يتطلب وقتاً، وتعالجه المحاكم التونسية في غضون ثلاثة أشهر، ومن ثمة فإنَّ الأسباب المقدّمة تناقش جداً. طبعاً، لا شك في وجود اكتظاظ كبير في المحاكم، وأن قضية طلاق بالإنشاء يمكن أن تدوم خمس سنوات، ولكن لا يعني ذلك سحب اختصاص الطلاق بالتراضي من المحاكم كي تتفرغ لملفات الطلاق بالإنشاء والطلاق للضرر. كما أنَّ القبول بهذه المبادرة، علاوة على ما يمكن أن يتسلل تطبيقها من تهديد لحقوق الزوجة والأطفال، يمثل خطوة تفتح الباب في المدى القريب والبعيد لظهور مبادرات أخرى في اتجاه باقي أنواع الطلاق أو أي مسألة أخرى تابعة للأحوال الشخصية.
وكي نفهمَ أكثر خطورة مثل هذه المبادرة التي لا تولي الاعتبار اللازم للخلفية الفكرية الإصلاحية للمجلة، فإنه إلى جانب معالجة مسألة الزواج وما تشمله من مواضيع حساسة تتعلق برضا الزوجين، ومدى تمتعهما بالسن القانونية للزواج، فقد عالج القانون الصادر في 13 أغسطس (آب) 1956 مسألة الطلاق، وجعلت تحديد المسؤوليات والحكم بالطلاق حكراً على المحاكم دون سواها. وهي علامة تدل على أن سحب الوظيفة التشريعية من الفقهاء آنذاك، وتركيزها بين يدي المشرع الوضعي يمثل هدفاً من أهداف إصدار قانون مجلة الأحوال الشخصية. وبهذه النقطة تحديداً تكون المجلة قد حجرت فوضوية الطلاق، وأخرجته من سلطة الزوج. وهو ما يعني أنَّه قد تم نقل حق الطلاق إلى جهاز قانوني، يحدد حقوق المرأة والرجل في الوقت نفسه.
هكذا نفهم المواقف الرافضة للمبادرة التشريعية، ونفهم أكثر لماذا كان الرفض راديكالياً. ذلك أنَّ بنية مجلة الأحوال الشخصية التونسية لا تقبل إلا بتطوير المكاسب، ودون ذلك فإنّه يعد هدماً وبناءً فوضوياً يتسلل إلى بنودها.
أيضاً إذا كانت الأسباب تقتصر على الاكتظاظ في المحاكم، فإنَّ الحل قد يكون في الدفاع عن مبادرات تطالب بالترفيع في ميزانية المرفق القضائي، وأيضاً مبادرات تعالج المشاكل الزوجية والأسرية التي تنتهي بقرار الطلاق.