حين يتحدث التاريخ، يصمت الضجيج السياسي، وتتجلى البصيرة. لم تكن العلاقات السعودية – الأميركية وليدة المصالح العاجلة أو تقلبات المواقف، بل بدأت من بعد نظر مؤسس أدرك، مبكراً، أن العلاقة مع الدول العظمى لا تُواجه بالعناد، بل تُدار بالحكمة والحنكة. وقبل قمة «كوينسي» الشهيرة، ومن خيمة في روضة حزوى، بدأت قصة شراكة بين الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت؛ ما زالت ترسم ملامح التوازن الدولي حتى اليوم.
خبر الملك عبد العزيز، بثاقب بصيرته، أثر صراع القوى العالمية وألاعيبها السياسية وتأثيراتها في دولته الفتية؛ ورأى آثار الدبلوماسية في تغيير الموازين، وعرف أساليب المواجهة وأسرار تحرك القوى العظمى ضد بعضها بعضاً. واستثمر ذلك لتثبيت دعائم حكمه وبناء دولته، فجنب بلاده ويلات الحروب العالمية والتدخلات الخارجية، وحفظ حدود مملكته بسلسلة من المعاهدات والاتفاقات الدولية التي مكنته من التحرك في ظل تنافس القوى المتصارعة. كما استفاد من التناقضات السياسية بين تلك الدول، ووظفها لتقوية موقفه ودعم كيانه واستكمال بناء دولته.
وفي الوقت الذي أحاطت فيه بريطانيا بمملكته من كل الجهات تقريباً، أبقى خياراته السياسية مفتوحة. وأدرك، بثاقب بصيرته، دور أميركا المقبل على المسرح العالمي، فسعى إلى تأسيس علاقات معها. غير أن الولايات المتحدة كانت تعيش عزلة سياسية ولم تبد رغبة في ذلك، إلى أن اعترفت بالمملكة عام 1931 وأقامت معها علاقات دبلوماسية.
وفي عام 1933 منحت الحكومة السعودية امتياز التنقيب عن النفط لشركة «سوكال» الأميركية، لكن الوضع الدبلوماسي لم يتغير؛ فطوال عشرة أعوام لم ترسل واشنطن ممثلاً مقيماً في المملكة، وكلفت ممثلها في القاهرة القيام بالمهمة.
وفقاً للمؤرخ والصحافي البريطاني روبرت ليسي، لم يكترث الرئيس روزفلت، في منتصف عام 1941، بطلب وزارة الخارجية الأميركية تقديم مساعدة للسعودية في إطار برنامج الإعارة والتأجير، لأنها «بلد بعيد». غير أن التقارير التي وصلت إليه عن أهمية السعودية، بحكم موقعها الجغرافي ومركزها في العالم الإسلامي ومخزونها النفطي، وضرورة التعامل مع الملك عبد العزيز ومساعدته على حياده الإيجابي الذي أعلنه عند قيام الحرب العالمية الثانية، جعلته يغير موقفه.
ففي عام 1942 قدم ألكسندر كيرك أوراق اعتماده وزيراً مفوضاً ومبعوثاً فوق العادة للولايات المتحدة في جدة، وحمل رسائل عدة بين الزعيمين خلال عامي 1942 و1943. ويوضح ليسي أن النقص الاستراتيجي في إمدادات النفط أدى إلى ربط المصالح الأميركية بالسواحل السعودية، ففي غضون تسعة عشر شهراً فقط تحولت السعودية من «بلد بعيد» إلى «بلد حيوي للدفاع عن الولايات المتحدة».
يصف المترجم والوزير السعودي عبد الله بلخير استقبال الملك عبد العزيز، في مخيمه بروضة حزوى، للوزير المفوض كيرك الذي حمل «رسالة مستعجلة» من روزفلت فحواها شمول قانون الإعارة والتأجير المملكة العربية السعودية لإمدادها بما تحتاج إليه من مواد وسلع في أثناء الحرب، وقبول الملك عبد العزيز للعرض مع شكره للرئيس.
وجه الرئيس روزفلت، في يوليو (تموز) 1943، دعوة للملك عبد العزيز لزيارة واشنطن والاجتماع به، إلا أن الملك اعتذر بسبب ظروف الحرب وأناب وزير خارجيته الأمير فيصل بن عبد العزيز لرئاسة أول وفد رسمي سعودي يزور أميركا. احتفى روزفلت بالوفد في البيت الأبيض في 30 سبتمبر (أيلول) 1943.
يرى أستاذ العلاقات الدولية الدكتور عبد الحكيم الطحاوي أن تلك الزيارة يمكن عدّها الأساس الذي قامت عليه العلاقات السعودية – الأميركية، مضيفاً أن فيصل كان حريصاً على معرفة أهداف السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن المسؤولين الأميركيين أكدوا أن سياستهم تهدف إلى استقرار المنطقة العربية وأهمية ذلك للمصالح الأميركية.
الجانب الشخصي والاحترام المتبادل في علاقة عبد العزيز وروزفلت تجليا خلال قمتهما على متن البارجة «كوينسي» في 14 فبراير (شباط) 1945، التي أكد خلالها الملك المؤسس أنه يريد علاقة شراكة لا تبعية. ومع ذلك كان رده حاسماً بشأن هجرة اليهود إلى فلسطين. والموقف السعودي مع الحق الفلسطيني هو مبدأ أكده الملوك السعوديون السبعة، من عبد العزيز إلى سلمان، لخمسة عشر رئيساً أميركياً وللعالم بأسره.
وأمس احتفت المملكة باستقبال الرئيس دونالد ترمب الذي اختار الرياض أول وجهة خارجية له في فترة رئاسته الثانية، كما فعل في الأولى، ليلتقي ولي العهد ويرى ثمار الرؤية التي وضعها الأمير محمد بن سلمان للشراكة بين البلدين، ويبحث قضايا الإقليم والعالم.
ولئن كانت القمة الأولى قبل أكثر من ثمانين عاماً جاءت بحثاً عن صداقة وتحالف بين دولتين تفرقهما محيطات وثقافات، فإن قمة الرياض أمس تلخص التحول الهائل الذي شهدته المملكة خلال عقود لا تذكر في تاريخ الأمم؛ تحولٌ غرس ثماره الملك المؤسس، ورعاه أبناؤه الملوك، وأينع ببراعةِ حفيده محمد بن سلمان.
خلال تلك العقود، لم تكن العلاقة بين الرياض وواشنطن مجرد مصالح تتقاطع وتتذبذب بين مد وجزر؛ بل كانت علاقة متجددة لشراكة تقوم على الاحترام المتبادل، والاستقلال في القرار، والثبات على المبادئ. ولئن كانت السياسة تتبدل، فإن المواقف السعودية من القضايا الكبرى تبقى شاهدة على عمق رؤيتها التي لا تغيرها قمم، ولا تغريها وعود ما لم تكن منسجمة مع القيم والمصالح السعودية.