في خطوة ذات دلالة حضارية كبيرة وذات رمزية كبرى، صادق المجلس الاستشاري لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة في مدينة مراكش على اعتماد كرسي تحالف الحضارات الذي أحدث في الجامعة الأورومتوسطية بفاس، مانحاً إياه الاسم الرسمي: كرسي الأمم المتحدة لتحالف الحضارات. وإنشاء هذا الكرسي العالمي في مدينة فاس وفي الجامعة الأورومتوسطية، والذي لنا شرف ترؤسه، ينطلق من القناعة بالدور التاريخي الذي اضطلعت به مدينة فاس بصفتها عاصمة لتحالف الحضارات والتنوع الثقافي، والدور التاريخي الذي ما فتئت تقوم به أقدم جامعة في العالم، وهي جامعة القرويين، التي مأسست للقيم الإنسانية والحضارية عبر القرون. وإنك ستجد في هاته المعلمة حصيلة كل تاريخ المغرب بما فيه التاريخ الإسلامي والحضاري والسياسي، وكل من يكتب عنها إلا ويشعر بأنه مقصر في حقها التي لولاها لما بقي الحرف العربي بالمغرب، ولما ازدهر الوجود الإسلامي بهذه الديار. وهل عرف العالم كله بلاد المغرب إلا إذا قرن باسم فاس؟ وماذا تكون فاس لو لم تكن بها جامعة القرويين؟ وللذكر فإنَّ هناك عدداً من أعلام الفكر الموسوي والمسيحي والإسلامي كان لعلماء فاس أثر في تكوينهم وظهورهم، من أمثال دراس بن إسماعيل والبابا سيلفيستر وأبي عمران الفاسي وابن باجه وابن العربي وابن ميمون الحاخام وابن طفيل وابن رشد وابن زهر وابن سمعون (اليهودي) وابن بطوطة وابن خلدون وغيرهم ممن اشتهروا عبر القرون وفي كل الأمصار.
الذي يُعنى بتاريخ القرويين لا بد أن يجد متعة في الحديث عن كراسي الجامعة؛ ففي عهد السلطان محمد بن عبد الله (محمد الثالث) مثلاً، كانت هناك أزيد من مائة وعشرين كرسياً لتدريس العلم موزعة على مختلف فروع القرويين «المائتين والخمسين» المنبثة في كل منعطف وفي كل زقاق، علاوة على ستمائة مدرسة أولية من بينها دور للفقيهات، ومن تلك الكراسي يوجد عشرون كرسياً بجامع القرويين، يجري العمل في نيلها على نهج الأكاديميات الأصيلة… وإلى جانبها كانت خزانة الملك أبي يوسف، وأبي عنان من بني مرين، ثم المنصور السعدي، هذه الخزائن التي تكون اليوم (خزانة القرويين) ذات الشهرة العالمية والمملوءة بالمخطوطات الثمينة التي لا توجد إلا فيها، ومنها أرجوزة ابن طفيل في الطب، وأجزاء من إنجيل القديس لوقا ويوحنا…
وكرسي الأمم المتحدة لتحالف الحضارات يذكي في الحنايا ذلك التعلق بأدوار هاته الكراسي القديمة التي فيها عبق التاريخ وأسرار الإيمان الصحيحة، ومنبع التكوينات والاجتهادات التي استفاد منها طلاب ومريدون وعلماء من كل الديانات والجنسيات وفي كل المجالات والتخصصات، وقد سعدنا في مراكش بتجاذب أطراف الحديث مع شخصيات دولية بارزة أعضاء في المجلس الاستشاري لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، حيث القناعة المشتركة بدور هذا الكرسي الفريد في نوعه في تكوين جيل جديد متشبع بالقيم الإنسانية، وقد أطلعناها على ما قام به الكرسي في فترة وجيزة من تكوينات معتمدة ودقيقة في مجال حل النزاعات وتحالف الحضارات، ومن منشورات أكاديمية وعلمية، وترافعات معرفية حول قيم التعايش.
وهذا التوجه ضرورة حتمية وواجب أخلاقي وإنساني، وهو تعبير أصيل عن أبرز قيم المسؤولية المشتركة؛ كما يفتح المجال واسعاً أمام تكوين أجيال المستقبل، وتحصين «جيل ألفا» الذي يعني أن حياة مواليد الجيل الحالي هي مختلفة عن حياتنا نوعياً، ذلك أنهم وُلدوا في زمن التطور الرقمي ووفرة التكنولوجيا، كما سيكون لهم مستقبل ووظائف جديدة يؤدونها غير الوظائف التي نؤديها؛ فمثلاً فإن ثلث الوظائف الجديدة التي نجدها في الولايات المتحدة لم تكن موجودة من قبل… وهذا الجيل يستدعي منا جميعاً مجموعة من الاستراتيجيات الحكيمة لحمايته من كل ما يمكن أن يعتريه من قلة مشاركته في الأنشطة الاجتماعية، ولتكوينه بطريقة تجعل منه مساهماً في بناء المجتمعات وفي بناء السلام في الحاضر والمستقبل وبناء دولة المواطنة الشاملة، المبنية على القيم والعدل والحريات المشروعة، وتبادل الاحترام، ومحبة الخير للجميع، مع احترام تعدد الشرائع والمناهج.
إن العالم ليس بخير. وعدد الصدامات والصراعات في ازدياد مستمر. وكل شهر يمر علينا إلا ونشاهد أقطاراً وبلداناً تغطيها ويلات حروب وفتن جديدة. والكارثة الأشد هي أن نترك تكوين أجيال المستقبل وألا نضع بين أيديهم بوصلات واقعية تؤمن بالقيم المشتركة الثابتة الكفيلة بتحقيق السلم الداخلي والعالمي، وتوجه السياسات للقضاء على الفوارق الاجتماعية والأزمات التي تجعل العيش الآمن لملايين البشر مسألة معقدة، وتصلح السوابق المعرفية التي تؤطر وتسير الأذهان وسلوكيات الإنسان، وتؤمن بقواعد سمو القانون الدولي المتوازن ذي المصداقية والواقعية…