شهدت الدراما المصرية خلال الأعوام الأخيرة تحولاً لافتاً فى موضوعاتها وأساليب سردها، وكان من أبرز ملامح هذا التغيير تزايد الإقبال على المسلسلات القصيرة، التى تستكشف عوالم الجريمة والغموض، فبعد سنواتٍ طويلة من سيطرة الدراما الاجتماعية والتاريخية المطوّلة، بتنا نشهد أعمالاً أكثر تكثيفاً، من ثمانى أو عشر حلقات، تتناول قضايا التحقيق والفساد والجرائم النفسية، كما فى تحقيق، وريفو، ولحظة غضب، وشديد الخطورة، وغيرها من التجارب التى تتنوّع فى معالجاتها وتوجهاتها.
هذا التحوّل لا يمكن اعتباره محض تقليد للدراما الغربية، ولا مجرد طفرة عابرة، بل يعكس تغيراً أعمق فى الذائقة العامة، وفى المزاج الثقافى، وفى طبيعة المنصات التي باتت تشكّل مسار الإنتاج وعاداته، فالمشاهد المصري، كغيره في العالم العربي، بات أكثر تطلباً، وأقل استعداداً لتحمّل إيقاع الحلقات الممتدة دون داعٍ، أو الحوارات المكررة، هو اليوم يبحث عن حبكة مشوقة، تُروى بإيقاع محسوب، وتُقدَّم فى زمن وجيز يسهل متابعته.
ويأتى صعود المنصات الرقمية، وفى مقدّمتها “Watch It”، كعاملٍ محفّز لهذا الاتجاه، فقد منحت هذه المنصات مساحةً جديدة للابتكار، بعيداً عن قيود الموسم الرمضانى، وأتاحت للمبدعين تقديم أعمال أكثر جرأة وتحرراً من قوالب السوق الفضائى، الذى كان يفرض أحياناً “تمطيطاً” لا يخدم النص، الجودة والتركيز في البناء أصبحا العنصرين الأهم في تحديد نجاح أي عمل.
أما من حيث المحتوى، فليست مصادفة أن تبرز تيمات الجريمة في هذا التوقيت. فالمجتمع المصري، مثله مثل غيره من المجتمعات التي تمرّ بتحولات اجتماعية واقتصادية حادة، بات يرزح تحت ضغوط متعددة، من الفجوات الطبقية إلى قضايا الفساد، ما يجعل من دراما الجريمة أداة لتفكيك هذا الواقع وقراءته، هذه الأعمال لا تقدم الجريمة كحدث بوليسى فقط، بل تستخدمها كمرآة تعكس القلق الجمعى ومحاولة فهم الذات المجتمعية.
اللافت أيضاً أن عدداً كبيراً من هذه الأعمال يُسند إلى مبدعين من جيل جديد، أكثر تواصلاً مع لغة الصورة، وأكثر انفتاحاً على التأثيرات السينمائية العالمية، فتأتي معالجاتهم أكثر جرأة وتجريباً، تعتمد على سرد بصرى ديناميكى، ونهايات مفتوحة تحفّز التأمل والحوار، كما تظهر شخصيات مركّبة، لا تنتمى إلى الأبيض أو الأسود، بل تتحرك فى مساحات رمادية تعكس تعقيد النفس البشرية.
ورغم هذا الزخم الإيجابى، لا تزال هناك بعض التحديات الفنية التى تواجه هذا النوع من الدراما، من أبرزها تكرار بعض الحبكات، أو الميل أحياناً إلى استثارة الصدمة على حساب العمق، أو نقل قوالب جاهزة من الخارج دون تكييفها مع السياق المحلى، تبدأ بعض المسلسلات بقوة، لكنها تفتر مع الوقت بسبب ضعف تطور الشخصيات أو هشاشة البناء الدرامى.
لذا فإن الاستثمار فى كتّاب سيناريو يمتلكون فهماً ثقافياً واجتماعياً للجريمة -ليس فقط تقنياً- يبدو ضرورياً فى هذه المرحلة، كما يُستحسن تعزيز التعاون مع المتخصصين فى علم النفس والاجتماع، لصياغة أعمال تستند إلى رؤية أعمق، وهنا يمكن لمنصات مثل “Watch It” أن تلعب دوراً تنموياً من خلال تنظيم مسابقات وورش عمل لتبني أصوات جديدة، تدفع هذا النوع إلى آفاق أكثر تنوعاً وتجديداً.
يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين الإمتاع والطرح الجاد، بين البناء الدرامي المتقن والأسئلة الكبرى التي تعكس قلق هذا الجيل وتطلعاته. فما نشهده اليوم لا يُعد مجرّد ظاهرة عابرة، بل بداية مسار مختلف، يحمل في طيّاته ملامح لغة درامية جديدة، تحتفي بالإيجاز، وتستكشف المساحات المعتمة في الإنسان، وتضع الدراما المصرية في موقع أكثر اتصالاً بالعالم من حولها.