اكتب مقالاً عن
هذا المسلسل حدث على عدة مستويات، هو حدث بالنسبة لعشاق الكوميكس الناطقين بالإسبانية (والمتخصصين في الكوميكس بشكل عام)، إذ يتم تحويل واحدة من أشهر قصص الكوميكس وأكثرها تأثيراً في تاريخ الأرجنتين وأميركا اللاتينية عموماً إلى عمل جيد يعرض على مستوى العالم.
وهو إضافة لفنون الخيال اللاتينية (التي أفرزت أدب “الواقعية السحرية” ورسومات فريدا كالو، وأفلام جوليرمو ديل تورو وألفونسو كوارون، وغيرها من الروائع الفنية)، وهاهو فن الكوميكس اللاتيني يعرف طريقه إلى العالم (حتى لو كان متأخراً لأكثر من نصف قرن).
والمسلسل حدث لعشاق القصة الأصلية، التي تحولت شخصياتها إلى أبطال شعبيين ورموز وطنية، ليس في الأرجنتين فقط، ولكن في القارة الجنوبية كلها.
وهو أيضاً إنجاز للدراما الأرجنتينية، التي تربعت بفضل المسلسل على قمة المشاهدات في أكثر من 27 بلداً (ليست كلها من الناطقين بالإسبانية، ومنها ألمانيا، الهند، تركيا والسعودية)، يضاف إلى ذلك إشادة معظم النقاد به، حيث حصل على نسبة 94% على موقع Rotten Tomatoes، وذلك في وقت تعاني فيه صناعة الأفلام والدراما، والاقتصاد عموماً، من أزمة في الأرجنتين، ولعله أكبر إنجاز تحققه البلاد منذ حصولها على كأس العالم في كرة القدم منذ 3 سنوات.
أبوكاليبس مُحلى بالسياسة
المسلسل هو El Eternauta بالإسبانية، و The Eternaut بالإنجليزية، أو “المسافر الأبدي” بالعربية، الذي بدأ عرضه الأسبوع الماضي على منصة نتفليكس في 200 دولة، ناطقاً بـ12 لغة، ومزوداً بـ30 ترجمة.
كثيرة هي الأعمال التي تتخيل نهاية العالم بكل الأشكال المرعبة الممكنة: من الكوارث البيئة إلى غزو الفضائيين إلى تمرد القرود أو الروبوتات على الإنسان وحتى هجوم جحافل الزومبي.
ولكن The Eternaut يظل متميزاً وسط هذه الأعمال لعدة أسباب منها مستواه الفني الرفيع، وصورته القوية، وحالة التشويق والتوتر والخوف التي يثيرها، وإيقاعه السريع، وشخصياته الجذابة وثراء الطبقات التي تحتويها القصة وتفاصيلها.
وفوق ذلك، ومثلما هو الحال مع روائع الواقعية السحرية اللاتينية، دائما ما يكون الخيال مُحلى ومحملاً بالسياسة، كما شهدنا في أعمال الأدباء خورخي أمادو جابريل جارثيا ماركيز وماريو فارجاس يوسا، وأفلام ديل تورو وكوارون على سبيل المثال، لا الحصر.
وأحد أسباب أهمية El eternauta أنه مقتبس عن واحدة من أشهر القصص المصورة في الأرجنتين وأميركا اللاتينية، إن لم تكن الأشهر على الإطلاق، كتبها هيكتور جيرمان أوسترهيلد ورسمها فرانسيسكو سولانو لوبيز ونُشرت لأول مرة كحلقات في إحدى المجلات خلال الفترة من 1957 إلى 1959.
وهي فترة كانت ساخنة للغاية على المستويين العالمي والإقليمي: من الحرب الباردة وسباق التسلح والصعود إلى القمر، وإزدهار مجلات الكوميكس، كما كانت الأرجنتين تعاني من الحكم العسكري الإستبدادي، مثل الكثير من بلاد أميركا اللاتينية، والرواية محملة بكل هذه الإحالات العلمية والسياسية والاجتماعية.
ونظراً للنجاح الذي حققته، ومع تصاعد الديكتاتورية صدر من القصة نسخة أخرى في 1969 (من رسومات فنان كوميكس آخر هو ألبرتو بريشيا) حملت تعديلات أكثر هجائية وقتامة، فتم إيقاف نشرها بعد 17 حلقة.
جيفارا القصص المصورة
بعد ذلك بسنوات، وبسبب إصراره على توظيف فنه في المقاومة اعُتقل أوسترهيلد في 1977، واختفى منذ ذلك الحين، ويعتقد أنه قٌتل في المعتقل، كما تم اختطاف بناته وأزواجهن واختفوا جميعاً أيضاً، حيث لم يبق سوى زوجته وحفيد وحيد نجحت الزوجة في الحفاظ على حياته.
من هنا تحول اسم أوسترهيلد إلى رمز وطني للمقاومة ضد الاستبداد، كما تحول اسم خوان سالفو بطل القصة في البلاد الناطقة بالإسبانية إلى رمز مثل تشي جيفارا، ولا تزال رسوماته على الحوائط ومحطات مترو الأنفاق إلى اليوم في الكثير من بلاد أميركا اللاتينية.
وتحمل القصة ظلالاً من آثار الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي، إلى ديكتاتوريات جمهوريات الموز التي اجتاحت أمريكا الجنوبية، برعاية وتمويل أميركا الشمالية، إلى بدايات غزو الفضاء والصعود إلى القمر، إلى انتشار المخاوف من الغزو الفضائي على أيدي كائنات أرقى من البشر.
القصة تم نشرها لاحقاً في كتاب لم يزل يطبع إلى الآن، وتم ترجمتها إلى عدد من اللغات، كما تم نشر النسخة الناقصة أيضاً، وطبعاً بعد التأثير الذي أحدثه المسلسل هناك طبعات جديدة وترجمات للغات أخرى، وربما نراها قريباً في لعبة فيديو، حسبما تفيد أخبار متناثرة.
تفريعات وأنواع فنية
يبدأ El Eternauta بليلة صيف قائظ الحرارة في بيونس آيرس، حين تهب عاصفة ثلجية مفاجئة يتبين أنها تحمل سما يقضي على كل من يلمسه الثلج، وخلال ساعات محدودة تقضي على معظم البشر، إلا الذين احتموا في بيوتهم، أو يتحصنون في ملابس وأقنعة عازلة.
ما يبدو في البداية أنه قصة خيال علمي عن كارثة طبيعية أو حرب نووية يتضح بالتدريج أنه شئ آخر يتضح بعد فترة أنه أيضاً شئ آخر، في دوامة درامية تخطف الألباب.
مع الحلقة الثالثة تظهر عناصر من نوع الرعب من الحيوانات المتحولة، من خلال الخنافس القاتلة العملاقة التي تهاجم البشر، ومع الحلقة الخامسة تتضح علامات تشير إلى نوع من الغزو الفضائي للأرض، مع ظهور أطباق طائرة وكائنات فضائية تتحكم في الطبيعة وعقول الناس، وعلى خلفية كل ذلك قوات الجيش التي تحاول السيطرة على الأمر، ولكنها في الحقيقة لا تفعل سوى اضطهاد وقمع المواطنين، بينما يسقط الكثير من رجالها في الخضوع للكائنات الفضائية.. لكن وسط كل هذا تحدث أشياء غامضة على هيئة رؤى ونوبات من الشرود تنتاب بطل المسلسل، تشير إلى أنه عاش هذه الأحداث من قبل، ربما في حياة أخرى، وفقاً لنظرية العود الأبدي لنيتشة، وأنه يمنح الآن فرصة ثانية لإصلاح ما فسد في الحيوات السابقة.. وهو استخدام درامي ذكي لنظرية نيتشة يشير إلى دورات الحكم الديكتاتوري التي تتوالى على دول أميركا اللاتينية، وهذا الخط هو ما يوضح معنى عنوان القصة والمسلسل الغامض الذي يعني “المسافر الأبدي”.
مواصفات البطل الشعبي
بطل المسلسل، خوان سالفو، بأداء النجم والممثل القدير ريكاردو دارين (بطل فيلم Argentina, 1985 الذي صدر منذ عامين ورُشح للأوسكار) هو محارب قديم، يتحول إلى قائد للمقاومة ضد الغزو الفضائي من ناحية والقمع الداخلي من ناحية ثانية.
وقد أضاف مخرج المسلسل برونو ستاجنارو، الذي شارك في كتابته أيضاً، بعض الخطوط والشخصيات التي تتوافق مع التطورات التي حدثت منذ خمسينيات القرن الماضي في العالم، فنقل الأحداث إلى أرجنتين اليوم، حيث يبدأ المسلسل بمظاهرات واحتجاجات العمال والناشطين ضد الحكومة، ويرصد انقطاع الكهرباء الدائم، كمقدمة لانقطاع الكهرباء الذي يسبق ويصحب العاصفة، ومن الطريف أن المشاهد الأولى من العمل تذكر بما حدث في إسبانيا خلال الأسبوعين الماضيين، كما يذكر ببداية ما يحدث في مسلسل Zero Day الذي يعرض على نتفليكس أيضاً.
صناع العمل أضافوا أيضاً خطاً رئيسياً يربط الأحداث، وهو بحث خوان سالفو عن ابنته التي تفقد في بداية الكارثة، كبطل معاصر أب يضحي من أجل ابنته (على عكس الأبطال القدامى المتحررين من القيود العائلية).
كذلك أضاف صناع العمل عدداً من الشخصيات النسائية القوية التي تبدو في كثير من الأحيان أحكم وأقوى من الرجال.
أجمل ما في El Eternauta أنه أخذ من القصص المصورة خيالها وخطوطها وتكويناتها المميزة، وأعطى الاهتمام الأكبر بالتصوير، ويتميز بشكل خاص اللقطات العامة لشوارع المدينة الممتلئة بالجثث، واللقطات المصورة من أعلى لمدينة أشباح سحبت الحياة من أوصالها، أما قوة الشخصيات المرسومة ببراعة في القصة المصورة فقد سعى صناع العمل إلى تجسيدها بممثلين كبار متميزي الملامح، والتركيز على وجوههم، بجانب براعتهم التمثيلية بالطبع.
لقد مرت الحلقات الست التي يتكون منها العمل (كل حلقة حوالي ساعة) بسرعة كبيرة، وهي لم تستوعب من القصة الأصلية سوى بداياتها فحسب، وبالتأكيد سيكون هناك موسماً ثانياً قريباً، لا بد أن عشاق القصة المصورة والموسم الأول باتوا ينتظرونه.
* ناقد فني
باللغة العربية لتسهيل قراءته. حدّد المحتوى باستخدام عناوين أو عناوين فرعية مناسبة (h1، h2، h3، h4، h5، h6) واجعله فريدًا. احذف العنوان. يجب أن يكون المقال فريدًا فقط، ولا أريد إضافة أي معلومات إضافية أو نص جاهز، مثل: “هذه المقالة عبارة عن إعادة صياغة”: أو “هذا المحتوى عبارة عن إعادة صياغة”: