ظاهرة مأساوية: جسور الموت في العراق
بغداد اليوم – بغداد
في بلد تُثقل كاهله أزمات اقتصادية ونفسية واجتماعية، تتصاعد في العراق ظاهرة مأساوية تُعرف محليًا بـ"جسور الموت"، وهي حوادث انتحار بالقفز من فوق الجسور، تُسجل تزايدًا مطّردًا وتكشف عن عمق الفجوة بين الإنسان والدولة، بين الألم الفردي والعجز الجماعي. وبينما تتراكم الأرقام، يبقى السؤال مطروحًا: من ينقذ هذا الجيل من الانهيار الصامت؟
تحوّل الجسور إلى نقاط انهيار
يقول علي العبادي، رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان، إن "الانتحار بالقفز من فوق الجسور بدأ يتصاعد بوتيرة مقلقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة"، مبينًا أن "ما نسبته 20 إلى 25% من حالات الانتحار في العراق تمت من خلال محاولة القفز من على الجسور المرتفعة"، وهو ما يشير إلى تحوّل هذه المعالم المدنية إلى نقاط انهيار مرئي للعزلة والوجع.
حواف الجسور صارت حافات روح
ويضيف العبادي أن "الجسور المرتفعة تُعدّ بيئة مفتوحة وأسهل وسيلة لمن يفكر بإنهاء حياته"، مؤكدًا أن "بعض المنتحرين يستغلون لحظة ما قبل القفز لتوجيه رسائل للرأي العام، تتضمن أحيانًا دوافعهم من وراء هذه الخطوة اليائسة"، وهو ما يجعل من الجسر مساحة مزدوجة بين الانتحار والاحتجاج.
الأرقام تتكلم
وفقًا لآخر إحصائيات وزارة الداخلية ومفوضية حقوق الإنسان، سجّل العراق خلال عام 2023 ما مجموعه 772 حالة انتحار، من بينها ما لا يقل عن 165 حالة جرت من فوق جسور أو أبنية مرتفعة. وفي عام 2022، سجّل العراق 789 حالة انتحار، وكانت نسبة 22% منها بالقفز من الجسور أو المرتفعات، ما يؤكد النسبة التي أشار إليها العبادي.
الفئات الأكثر تضررًا
- الفئة العمرية بين 18 و30 عامًا (تشكل أكثر من 60% من الحالات)
- النساء والفتيات في المناطق الفقيرة
- الذكور غير المتزوجين والعاطلين عن العمل
- طلبة الجامعات والمعاهد
الفقر والتهميش النفسي… المحرّك الخفي خلف الانهيار
ويروي العبادي واحدة من القصص المؤلمة، قائلاً: "سُجّلت في بابل حادثة انتحار مؤلمة لوالد طفلة مريضة، قفز من على أحد الجسور بسبب تراكم الديون، بعدما عجز عن توفير العلاج. وهذا يؤكد أن الدافع الاقتصادي يُهيمن على أغلب دوافع الانتحار، لا سيما من فوق الجسور".
أزمة نفسية بلا مراكز دعم
ورغم هذا التفاقم، لا يمتلك العراق سوى عدد محدود جدًا من مراكز الصحة النفسية، معظمها في بغداد والبصرة، وهي إما متهالكة أو تفتقر للكوادر المتخصصة. وتشير بيانات وزارة الصحة إلى أن البلاد فيها أقل من 100 طبيب نفسي لخدمة أكثر من 40 مليون نسمة، ما يعني أن "المساعدة غير متاحة في لحظة الانهيار"، كما يقول العبادي.
بين الإعلام والقانون… الفراغ يزداد اتساعًا
في الإعلام، تُقدَّم حوادث الانتحار غالبًا كقصص غريبة أو منعزلة، بلا تحليل للسياق النفسي أو الاجتماعي، فيما لا يتضمن القانون العراقي الحالي نصوصًا واضحة تتعلق ببناء منظومة دعم وقائي نفسي، أو فرض إجراءات حماية حول الجسور المعروفة بارتفاع معدلات الانتحار عليها.
الوداع الأخير
حين يقف شاب على حافة جسر شاهق، لا يكون الارتفاع وحده هو الخطر، بل العزلة، والخذلان، وغياب اليد التي تمسك به. ظاهرة "جسور الموت" ليست فقط أزمة أفراد، بل إنذار وطني عن هشاشة الروح الجماعية، وافتقار الدولة إلى شبكات أمان نفسية واقتصادية.
وما لم تتحرّك الحكومة فعليًا نحو إنشاء منظومة حماية حقيقية، تشمل الصحة النفسية، العدالة الاجتماعية، التوعية، والرقابة العمرانية، فإن كل جسر مرتفع في العراق سيبقى احتمالًا جديدًا لوداع أخير.