يستحق المركز الكاثوليكي المصري للسينما تحيّة والتفاتة محبة، في دورته ال 73 من مهرجانه السينمائي، ذلك أن حضوره المختلف عن السائد يُشكّل انعطافة ثقافية مهمة تسهم بشكل واضح في التواصل السوي مع النتاج الثقافي المتنوّع في مجتمعنا، وهو، بهذا الشكل وبتاريخه الطويل الحافل، أسّس حيّزًا مكانيًا وإبداعيًا جليًا يصعب إغفاله، فهل يمكن مثلًا تجاهل أو إنكار أرشيف المركز الذي ينقذنا كصحفيين وباحثين في ظل جدب وقحط المعلومات وندرة المصادر التي نعاني منها جميعًا في عملنا؟… لا أعتقد أن هناك مُنصف في مهنتنا يمكنه أن يكون جاحدًا ولا يعترف بفضل هذا الأرشيف، بما يحتويه من كنوز وأوراق مهمة تسرد أحوال بلدنا وتاريخه السينمائي والفني الذي يقف على سياج تحولاته السياسية والاجتماعية. ناهيك عن مهرجان هو في حد ذاته فعل حياة، يقوم على معايير إنسانية تدعم منظومة القيم الأخلاقية وتسمو بها، كما يقول الأب بطرس دانيال مدير المركز الكاثوليكي المصري للسينما ورئيس المهرجان في كلمته الواردة داخل كتالوج المهرجان، مضيفًا:”من الوارد أن يعترض البعض بقوله أن ما يجسده الفن على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة هو واقع في المجتمع الذي نعيش فيه… ولكن الفن الهادف لا يسعى إلى تجسيد الواقع فحسب، بل الارتقاء بوعي المشاهدين وأذواقهم”.
إذًا. نحن بصدد مهرجان لا يتهاون في معاييره وكذلك لا يتساهل في شؤون الفن السابع. يُحاول مرارًا أن يكون داعمًا، أن يكون منبرًا للتواصل ونافذة لأسماء سينمائية شابة. دأبه، طوال أعوامه الطويلة أن يجعل دوراته السنوية حلقة متكاملة، تبدأ بعرض الأفلام المتنافسة على الجوائز وتستمر بالنقاش الجماهيري مع صُناعها.. الخطوات التي يخطوها المهرجان سنويًا، تؤكّد حرصًا على جعل السينما أساسية، حاضرة فيه وهو واحد من أقدم المهرجانات السينمائية في مصر والعالم العربي، بل وعلى مستوى الشرق الأوسط.
للمرة الثانية حظيت بكوني عضو لجنة التحكيم في هذا المهرجان العريق، بالنسبة لي وعلى صعيد شخصي، أعتبرها خطوة جاءت في وقتها لتملأ المسافة التي اتسعت بين واقع كابوسي مهدد بالحروب، وبين أملنا في أفق مفتوح على ما تبقى من إنسانيتنا.
المسألة ليست مبالغة لُغوية، إنما هي موهبة الأمل التي تلمستها في هذه الدورة مع زملاء لجنة التحكيم وهم أساتذة كبار: المخرج طارق العريان، الكاتب أحمد مراد، مدير التصوير د. أيمن أبو المكارم، الموسيقار شادي مؤنس، المونتيرة رانيا المنتصر بالله، الفنان عمرو يوسف، الفنانة دينا فؤاد، الفنانة هبة عبد الغني.. حرص المهرجان، كعادته، على اختيارهم على أساس تنوع لافت يعبر عن انتماءاتهم لمجالات سينمائية مختلفة.
الدورة 73، هي في تصوري دورة خاصة، تطلع لتضيف خطوة تنويرية جديدة بفضل جهود فريق المهرجان الدؤوب وعلى رأسهم الأب بطرس دانيال رئيس المهرجان ورئيس المركز الكاثوليكي المصري للسينما، المنظم للمهرجان، المثابر، المعني بالعمل الثقافي والفني والإنساني، الحريص على توطيد العلاقة الثنائية بين الفن والناس من خلال النشاط الإبداعي المتنوع بأشكاله ومضمونه.
في كل مرة أدرك أن المهرجان يتطور ويتخذ السينما لغة حوار وتفاعل، إنطلاقا من قناعة مفادها أن الفيلم وسيلة فعالة للحفاظ على إنسانيتنا.
مهرجان المركز الكاثوليكي المصري للسينما لا يعد فقط هو الأقدم على خريطة المهرجانات المصرية، بل لقد استطاع على مدار تاريخه أن يكون محطة ثابتة في المشهد الثقافي والفني المصري، وهذا أمر مهم يندرج في إطار تثبيت موقع المهرجان ثقافيا وفنيا وجماهيريا، بما يسهم في مزيد من بلورة الإطار العام للمهرجان والتفاصيل المتنوعة التي تلعب دورا في بقائه كتظاهرة سينمائية جادة وأصيلة.
السينما هنا في هذا المهرجان تطرح الأسئلة الفنية والفكرية، وتأخذنا معها في طريق التواصل الإنساني ومحاولة خلق إنسجام ما في عالمنا، يتحقق بالتراكم الزمني والمعرفي، إنه جزء أساسي يتحدى دورة بعد الأخرى مصاعبا كثيرة، أبرزها الأزمات المتنوعة التي تعاني منها عملية الإنتاج السينمائي.
إزاء التراجع الكمي والكيفي التي عانت منه السينما، يأتي هذا العام بأفلام عاندت الارتباك والفوضى الإنتاجية، فظهرت أعمالا جيدة، عبرت عن أمل في التغيير، هذا ما لمسناه في مشاهداتنا كلجنة التحكيم.
لاشك أننا نأمل في محاولة أكثر للعبور من الكبوة السينمائية والخروج بالسينما من مأزقها، ونحن نعول على أحلامنا والمقبل من التجارب الجديدة، كذلك على مهرجانات تُربي الأمل كما يفعل مهرجان المركز الكاثوليكي، بما يتراكم في تاريخه من وعي ثقافي ومعرفي، أساسه حرية التواصل مع الآخر، لذا لا أملك إلاّ تحية شخصية متواضعة أقدّمها إلى هذا المهرجان المستمر في تفعيل حضوره الثقافي والفني، وسعيه لتقديم صورة جيدة عن الواقع الإنساني من خلال السينما، وإفساح المجال أمام هذه السينما للتعبير عن توجهاتها والتزاماتها وأساليبها المتنوعة: الفنية والتقنية والجمالية والدرامية.