ما زلنا مع الحديث عن تاريخ الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز أن يراجع المقال السابق.
ما يُعرَف بـ«حروب الردة» هو فى حقيقة الأمر النموذج الأقدم لـ«فرض غطاء دينى لحرب سياسية واقتصادية» فى التاريخ الإسلامى.
دعونا أولًا نفند مصطلح «حروب الردة»، فهو مصطلح يعنى أن كل من تمردوا على السلطة المركزية للدولة الإسلامية الناشئة قد ارتدوا عن الإسلام، ربما يكتسب هذا الوصف قوته من أن دوافع تمردهم – كادعاء النبوة للبعض ومنع الزكاة من البعض الآخر – هو خروج من الدين، ولكن مشكلة هذا المصطلح أنه يعمم أحد الأنواع الثلاثة لذلك التمرد على النوعين الآخرين.
رغم ذلك لا أرى سبيلًا لاستبداله، فقد صار مما يوصف بأنه «خطأ شاع حتى استحال تغييره»، طالما اصطلح المشتغلون بالتاريخ على استخدامه.
انقسمت «حركات الردة» إلى ثلاثة أنواع:
– هناك قبائل وعشائر ارتدت بشكل صريح عن الإسلام ووثبت على من ثبتوا منها على إسلامهم فنكلت بهم.
– قبائل وعشائر غيرها أعلنت ثباتها على الإسلام لكنها أعلنت رفضها دفع الزكاة والصدقات للسلطة المركزية فى المدينة، حيث إنها قد اعتبرت أن تلك السلطة لاغية بوفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
– قبائل أخرى ظهرت فيها حالات «ادعاء للنبوة»، فالتفت حول أنبيائها الكاذبين وتحدت سلطة المدينة.
فى الحالات الثلاث لعبت القبلية دورًا ملحوظًا، فالقبائل التى ارتدت لم يكن إعلانها إسلامها سابقًا إلا نوعًا من المداراة و«الانحناء فى مواجهة الموجة»، وما كانت ترى فى الرسول سوى «زعيم قرشى جاء ليرفع قريشًا على أعناق العرب».
والقبائل التى منعت الزكاة لم تكن مشكلتها مع فريضة الزكاة نفسها، وبشكل عام لم تكن أعمال البر والإحسان للمساكين تمثل مشكلة للعربى بل لطالما كانت مكرمة له، وإنما كانت مشكلة تلك القبائل هى أن تَلزَم بإرسال الأموال للمدينة لتضعها بين يدى زعيم قرشى يتولى هو مهمة توزيعها على مستحقيها، وهو أمر ليس بالمهين فيما يتعلق بـ«الدولة المركزية» لكنه بالنسبة للتفكير القبلى يمثل إهانة وإذلالا، فلم يكن هؤلاء المتمردون إذن قد تجاوزوا القبلية إلى التمدن.
وأما مدعو النبوة، فكانوا ينظرون للنبوة والرسالة لا فى سياقها الدينى باعتبارها «تكليفا واختيارا إلهيا» وإنما باعتبارها «تطورًا طبيعيًا للكهانة» أو «عودة لنظام الملك – الكاهن» الذى كان سائدًا قديمًا فى اليمن تحت حكم المكاربة «المكرب هو من ألقاب ملوك اليمن القدماء وهو بلغتهم «المقرب» بمعنى أنه المقرب من الإله وهو يجمع السلطتين الزمنية والدينية»، فرأوا فى تجربة نبى قريش «هكذا كانوا ينظرون إليه» نجاحًا دفعهم للرغبة فى تكرار تلك التجربة من ديارهم لعلها وسيلة لمناطحة سطوة قريش
والحقيقة أن حسد قريش على مكانتها بين القبائل كان يسبق الإسلام بزمن لا بأس به، فقد كانوا أعز العرب لتحويلهم مكة إلى مركز لتجارة الجزيرة العربية، ولقيامهم بعقد نظام الإيلاف، ولرعايتهم الكعبة، ولهذا الأمر الأخير وصفوا بأنهم «أهل الله» و«جيران الله»، فكان من الطبيعى أن تنظر بعض القبائل الكبيرة لهذه المكانة بعين الحسد، إلى حد أن قبيلة ثقيف – فى الطائف – والتى كانت تنظر لكعبة مكة باعتبارها منافسًا يسحب البساط من «كعبة اللات» فى الطائف «مكان عبادة الإلهة العربية اللات كانت عبارة عن بناء مكعب»، قد قدمت العون لأبرهة الحبشى خلال غزو مكة بغرض هدم الكعبة.
والقارئ لتاريخ «حروب الردة» يلاحظ فى خطاب المتمردين روحًا قبلية واضحة.. ففى اليمن قبيل وفاة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بوقت بسيط، ادعى كاهن يُدعَى عيهلة ويشتهر بـ«الأسود العنسى» النبوة، واستغل الصراع الدائر فى اليمن بين الزعماء القبليين من ناحية وبقايا الاحتلال الفارسى وفئة الأبناء «أنصاف فرس وأنصاف يمنيين عن تزاوج بين اليمنيين والفرس» من ناحية أخرى، ووثب على الحكم وخاطب من أرسلهم الرسول إلى اليمن لتولى مهام القضاء وجمع الزكاة وتعليم الناس الدين فقال لهم «أيها المتوردون علينا.. أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا وأمسكوا ما جمعتهم من مال الزكاة، فنحن أولى به» أى أنه خاطبهم خطابه لمحتل لأرضه وسالب لماله وليس لممثلين عن سلطة دولة اليمن جزء منها.
ومسلمة بن حبيب المشهور بـ«مسيلمة الكذاب» فى اليمامة، عندما ادعى النبوة وراسل الرسول محمد قال له «إن لنا نصف الأرض ولكن قريش قومًا يعتدون».. وقرة بن هبيرة – سيد بنى عامر – قال لعمرو بن العاص خلال مفاوضات فض التمرد: «إن العرب لا تطيب لكن نفسًا بالإتاوة»، وعيينة بن حصن من فزارة الذى دعم ادعاء طليحة بن خويلد الأسدى للنبوة قال لابن العاص: «يا عمرو استوينا نحن وأنتم» بمعنى أن منهم رسول كما لقريش رسول.. وخطب فى قومه يحرضهم على التمرد قائلًا: «والله لأن نتبع نبيًا من الحليفين «تحالف غطفان وأسد» أحب إلينا أن نتبع نبيًا من قريش»، بل ولأن العرب العدنانيين «نسبة لجدهم عدنان بن أدد» ينقسمون فى أصولهم إلى «مُضَر» وعلى رأسها قريش و«ربيعة» ومنها قبيلة حنيفة، فقد توجه أحد زعماء «ربيعة» لمقابلة مسيلمة الكذاب وبعد حوار بينهما قال لمسليمة: «والله إنى أعلم أن محمدًا لصادق وأنك لكاذب ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر».
تلك النعرات القبلية التى نجح الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق فى إخماد تمرداتها، بقيت بعد انتهاء حروب الرِدة بمثابة «النار تحت الرماد»، فلئن عادت القبائل إلى الإسلام، ودفعت الزكاة، ونبذت مدعى النبوة فيها، فإن مرحلة جديدة من الصراع القبلى الموجه فى الأساس ضد قريش كانت تستعد للإطلال برأسها تحت مسمى آخر هو «حركة القراء».. وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.