في مشهد الشرق الأوسط المعاصر، لا يمكن الحديث عن أي تحول استراتيجي حاسم من دون التطرق إلى معضلة الاستقرار المزمنة التي تعصف بالمنطقة. فكل محاولة لـ«إعادة ترتيب البيت» بعد الأزمات الكبرى، من غزة إلى دمشق، تصطدم بجدار اللاحسم: لا حسم في مواجهة العبثية الإسرائيلية والوحشية المتكررة في غزة، والتعدي على السيادة في باقي ملفات المنطقة المفتوحة برسم فوضى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ما نشهده اليوم في المنطقة غير مسبوق، ولا يُعبر عن غياب حلول، بل تعليقها وتعليق الحلول، سياسياً، لا يعني تجميد الأزمة بل تحويلها إلى مستودع دائم للتطرف من نشوء وصعود المجتمعات الأصولية الغاضبة التي ترحّل أزماتها في البحث عن الاستقرار إلى محاولة فرضه على طريقة الغنيمة، والحق يقال بعيداً عن كل المفاهمات السياسية التي تجترحها دول المنطقة رغبة منها في عدم فتح أزمات جديدة لمنطقة لم تحتمل الفوضى، إلا أننا إزاء مشهد يشي بمعمل مفتوح ومتجدد لإعادة إنتاج الفوضى. فالبيئة الرمادية التي تُركت فيها مناطق التوتر من دون رؤية واضحة أو استراتيجية «المابعد»، فضلاً عن أبجديات بناء عقد اجتماعي يشمل جميع المكونات، لن يفرز ذلك إلا مزيداً من العنف والتجنيد العقائدي والطائفي، ولن يؤدي بالضرورة والحتمية التاريخية إلا إلى هشاشة الاستقرار ما بعد فترات النزاع.
وفي التفاصيل وعلى الرغم من أن الحكومة الجديدة في بيروت تبدي إرادة سياسية واضحة وجادة لتفكيك نفوذ «حزب الله»، ومع ذلك فإنها تُترك وحيدة من قِبل المجتمع الدولي والدول الكبرى في مواجهة تركة ثقيلة من اقتصاد منهار وسلاح خارج الدولة ومؤسسات مخترقة. وفي سوريا، تحاول الحكومة المؤقتة على الأقل في تصريحاتها المعلنة التأسيس لمرحلة سياسية جديدة، بعد أن نالت دعم جميع جيرانها ومحيطها، لكنها تواجه بدورها بيئة دولية باردة، وعقوبات خانقة، وانعداماً للثقة الغربية لأسباب تتطلب رؤية للخروج من النفق الذي لا يمكن أن يحدث من دون أن يولد الحل في الداخل السوري وبمساهمة كل المكونات، وأيضاً بمساعدة دول الاعتدال لتجسير الهوة التي تتفاقم حول أسئلة لا يمكن تأجيلها من المقاتلين الأجانب، وصولاً إلى التمثيل العادل. وفي اليمن فإن مواجهة الحوثي من قبل الولايات المتحدة أو حتى إسرائيل بعد حادثة استهداف المطار ومن دون التفكير في دور للشرعية اليمنية ودول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية، هي إعادة إنتاج لمعضلة الحل على طريقة الوجبات السريعة وردود الأفعال، التي يعرف الخبراء نتائجها منذ أفغانستان ومروراً بالعراق.
مرحلة «الاستقرار» حتى في المفهوم الكلاسيكي للعقيدة العسكرية الأميركية هي الأكثر حساسية بعد العمليات الحربية، لأنَّها تُعنى بإعادة الأمن، وإنعاش الاقتصاد، وترميم العقد الاجتماعي. لكنها اليوم المرحلة التي يُغيب عنها الفعل السياسي الدولي لصالح التكتيكات العسكرية القصيرة المدى، ولذلك فإن أي استراتيجية من دون تدخل مدني منظم، واستثمار دولي في إعادة البناء السياسي والمؤسسي، فإن أي نصر عسكري سرعان ما يتحول إلى عبء أمني جديد.
هذا الفراغ الكبير الذي يتعاظم في الشرق الأوسط لا يمكن أن يمر من دون تكلفة باهظة الثمن، وما يزيد المشهد تعقيداً هو أن قوى أصولية باتت قادرة على «ترتيب نفسها»، والتحول إلى مجتمعات ضاغطة، عبر تحالفات ظرفية مع بعض القوى المتنافسة معها أو سلطات الأمر الواقع، أو من خلال إعلاء خطابات سياسية شكلانية للإعلام والاستهلاك الدولي وممارسات متطرفة على مستوى الحياة اليومية يخفي وراءه نيات للقوى الفاعلة لمشروع لا يمكن أن يبنى على المواطنة مع حضور اللغة العقائدية والطائفية، لأنه مشروع ببساطة، قائم على معضلة تاريخية لهذه المنطقة «فكرة الغنيمة لا الدولة، والاستحواذ لا المشاركة».
هناك كثير من التشاؤم تجاه مقاربة ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الثانية، حيث لا يزال مأخوذاً بفكرة الضغط القصوى من دون تقديم بدائل واقعية. فالعقوبات التي تُشدد على اللاعبين المحليين غالباً ما تُضعف المجتمعات لا الأنظمة، وتترك الباب مفتوحاً أمام القوى غير النظامية لتعويض غياب الدولة يعيد تدوير الأزمات بدل حلّها.
المفارقة أن بعض الأنظمة، خصوصاً تلك التي نشأت في فراغات ما بعد الحرب، تجد نفسها عالقة بين متطلبات الاستقرار الذي تريده الدول الكبرى، وبين ضغط جمهور تحالف معها على أسس مناهضة لمنطق الدولة ذاته. هذه الأنظمة عاجزة عن الحسم لأنَّها رهينة لتفاهمات هشّة بين سلاح غير شرعي ودعم خارجي غير مشروط، بينما تخسر تدريجياً شرعيتها الداخلية.
إن الاستقرار في الشرق الأوسط لن يُنتَج من غرف العمليات العسكرية ولا عبر العقوبات الاقتصادية فقط، بل هو مشروع طويل الأمد يتطلب مقاربة شاملة تُدمج فيها التنمية مع السيادة، والدبلوماسية مع الأمن، والمصالحة مع العدالة الانتقالية. وهي معادلة صعبة لكنها ليست مستحيلة.
في الختام، تقف المنطقة اليوم بين نموذجين متناقضين: نموذج تنموي يراهن على الإنسان والمواطنة والازدهار بقيادة السعودية، ونموذج أصولي يحاول إعادة بناء السلطة السياسية عبر شبكات ما قبل الدولة، قائم على الغنيمة والتعبئة الآيديولوجية. بين هذين الخيارين، تبرز معضلة الاستقرار كأهم تحدٍ استراتيجي في الشرق الأوسط. فإما استثمار هذه اللحظة المفصلية لبناء شرق أوسط جديد، وإما ترك الأزمات معلقة، فتتحول إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه الجميع.