بعد وفاة أحمد زكي طاردت تهمة (التقليد) كثيرا من الممثلين اللاحقين والمعاصرين له.. وأذكر أن الصديق (عمرو سعد) كان يجيب بانفعال لا تخفي على كل من يثير من وجه هذه (التهمة) منكرا لها، ومؤكدا أنه يبحث عن شخصيته المستقلة رغم أنه لا يزعم عدم تأثره به ككل جيله والأجيال اللاحقة.. والحقيقة أن هذا الهاجس لم يبارح (زكاوة) نفسه عندما يحلو لكثير من أن يضموه (لمدرسة ما) برغبة غير بريئة في نزع حالة (التفرد) التي كانت سمة أدوائه المتميز.
كنت أجيب على من يشركني في مثل هذا الحوار أن أحمد فرج بين الأداء العفوي وبين ما تعلمه في المعهد العالي التي كانت تتبنى طريقة أو مدرسة (ستان سلافسكي) في الأداء المصري، إضافة إلى تأثره بما تربي عليه من تراث السينما المصرية التقليدية.. وكان (تقليده) لأداء محمود المليجي في مسرحية (هالو شلبي) متقنا لدرجة أعجبت جمهورا اعتاد على أداء عبقري كالمليجي دون إنتباه إلى تفاصيل حركة الجسد وتنويع نغمة الصوت على النحو المميز الذي يبدو سهلاً ولكن ممتنع تماما عن ضعاف الحس والموهبة.
كان أحمد يسعد حين أضعه في سلة واحده مع زكي رستم وسعاد حسني ومحمود مرسي ولا يعلق عن أضفت عليهم اسم آخر، ومع ذلك لم يكن (زكاوة) من الذين (تطهرتهم) المجاملات والمبالغات، خاصة أن رحلة حياته هي التجاهل والصراعات المستترة لإثبات وجوده عبر الموهبة (التي كانت في الحقيقة كافية في زمنه) حتى اعتلاء مكانته في عالم التمثيل في بلده والوطن العربي كله.
ورغم (الأسلاك العارية) والتوتر الدائم الذي كان يحرمه من النوم ورغم (الخناقات) الشهيرة مع المخرجين.. فلم يكن أحمد يحب المواجهات المباشرة وخاصة مع أبناء مهنته وأذكر أنه لم يعترض أبداً على أي ترشيح لممثل في فيلم من بطولته ولا طالب باستبعاد زميل اختاره المنتج لأسباب فنية وكان يعتبر أن (قطع عيش) زميل جريمة لا تغتفر وليس سرا أنه كان (يساعد) زملاؤه سراً دون أن يفكر في استعادة (دينه) إلا إذا أحس أن الشخص الذي ساعده ينكر عليه جميله أو (يستعبط) حين تنصلح أحواله.. عندها كانت تستيقظ عنده عقدة الريفي الذي يحلو لأهل المدينة استكراده.. حكى لي سره عن أحدهم وهو يراه يدفع (مقدم) فيلا دون أن يفكر في سداد ديونه قبل (الفشخره) وعندما عرضت عليه التدخل بينهما غضب بشدة وحذرني من مجرد ذكر هذا الموقف لأي إنسان.
أما خشية المواجهات فقد شهدت حوادث كثيرة لم يشأ أحمد دخولها رغم موقفه الواضح من طرفيها من بينها مشادة كادت أن تتطور إلى تشابك بالأيدى بين صديقي وقتها السيناريست محمد حلمي هلال ورئيس قطاع الإنتاج ممدوح الليثي الذي كان بصحبة أحمد زكي صباح أحد الأيام بفندق هادئ بضواحي القاهرة.. كان (يا دنيا يا غرامي) قد فاجأ الجميع باستمرار عرضه أكثر من 15 أسبوع رغم عدم وجود (أبطال شباك) على أفيش الفيلم وكان بقاؤنا مع زكاوه للاتفاق على فيلم جديد.. وكان أحمد ممدوح.. بسلامة نية – حو الفيلم وتميزه حين ابتدى ممدوح الليثي فجأة ليقول أن لديه الكثير من أعمال حلمي بدرج المكتب وأن )على الله ما يكونش حلمي خبر حاجة من اللي عندنا وعمل بيها الفيلم).. لم أستطع السيطرة على حلمي الذي إنفجر بكل قسوة ودون أي مراعاة لوظيفة الرجل وسنة ووجود إبنه وكال له كل أنوع (المنقي) في الألفاظ.. لم يتدخل الأبن دفاعا عن والده ولكن الأهم من أحمد نفسه لم يسع سوى إلى تهدئة الموقف دون عدم لأي من الطرفين.
ولم يمنع هذا (زكاوه) نفسه من محاولة الإعتداء على نفس الشخص عندما أبلغه أنه لم يكتب حرفا في سيناريو تقاضي عربونا عنه منذ عدة أشهر ولم يمنع رغبة أحمد في تجنب المواجهات في (تفسيخ) قميص أحمد النقاد في فندق بالإسكندرية عندما علق ساخرا على أداء أحمد بشخصيتي ناصر والسادات قائلاً: انت هتصاحبني يأبن الـ.
في أفلامه الأخيرة كان يخشي على (حالة) اندماجه في الشخصية بشكل مرضي فكان لا يطيق من (يحدق) فيه أثناء التمثيل حتى لو كان من العاملين بالفيلم وكان يطلب إلا تلتقي عيناه بعيني أي شخص خلف الكاميرا تشتته وتخرجه من تركيزه.. وهنا تذكرت طلب ليوسف شاهين من جميع الواقفين خلف الكاميرا ألا يرتدوا أي ملابس ذات ألوان فاقعة أو مثيرة فكان يلتزم الجميع بملابس ذات الألوان محايده وبسيطة.
رحم الله أحمد زكي.. وكل من جسد الصدق والعفوية والإخلاص للمهنة المقدسة