اكتب مقالاً عن
حملات توفيق الأوضاع… عبارة تشكل وصفاً لدعوات التصالح مع المخالفات المتوالية في مصر، لكن اللافت أن غالبيتها يركز على يسر “وبساطة” تقنين الموقف مقابل غرامة تسدد بتسهيلات مريحة وحتى على دفعات، فيما تغيب تماماً النبرة التحذيرية من تبعات تجاهل القوانين.
إجراءات دعائية متنوعة الأساليب تقوم عليها مؤسسات رسمية رفيعة المستوى، تبدو وكأنها تهدئ من روع مخالفي شروط البناء، والمتأخرين في تقديم الإقرار الضريبي ومتجاوزي قوانين عدادات الكهرباء وغيرهم، فيما على جبهة ثالثة تتزايد المناقشات حول الاتجاه نحو الإقرار قانوناً بحق تصالح ورثة المجني عليه مع القاتل مقابل دفع مبلغ مالي، أو ما يعرف شعبياً بالدية في قضايا القتل العمد والتي لم يكن يعترف بها قانون العقوبات المصري، هذا التشريع الذي وصفه بعض الردة القانونية وآخرون يرونه على العكس، وسيلة لوقف سلاسل الثأر والانتقام بين العائلات.
الخروج من المأزق مقابل دفع حفنة من الأموال في رأي بعض يعد رادعاً غير كاف، مطالبين بضرورة وضع حق المجتمع في المقام الأول، وإن كانت كل هذه الحالات تُكيف وتسوى وفقاً للوائح والقوانين، كما أن الغرامات المالية الباهظة قد تكون رادعاً قوياً بالنسبة إلى عدة فئات لا سيما في ظل الوضع الاقتصادي الضاغط، ولكن اختيار التركيز على شق واحد يبدو في نظر المتلقي وكأنه ترويج للمخالفة، وليس ترهيباً من الإقدام على مثل تلك التصرفات.
هذا الأسلوب شكل حال من الارتباك الشديدة لمستقبلي الرسالة التي تبث إعلامياً بصورة متواترة، وعبر اللافتات والإذاعات والمحطات التلفزيونية الأكثر مشاهدة ومن خلال الصفحات الرسمية للوزراء والمديريات عبر الإنترنت، وكل هذه الأمور شكلت مع التعديل التشريعي محل النقاش الخاص بحق أهل الضحية في التصالح مع مرتكب الجريمة في حالات القتل العمد، دائرة من التساؤلات المتشابكة التي تحاول البحث في تداعيات مثل هذه التوجهات على المجتمع، وهل هناك قصدية في نشر هذه الثقافة أم مجموعة قرارات ومشروعات قوانين يُروج لها بطريقة جانبت الصواب لا أكثر؟!
تسوية أوضاع أم تسويق للمخالفات؟
قد يكون النموذج الأكثر وضوحاً هنا اختيار وزارة التنمية المحلية مناشدة المواطنين بسرعة تقديم طلبات التصالح على مخالفات البناء خطاباً تطمينياً، بصورة مبالغ فيها بعض الشيء، يبدو للوهلة الأولى والأخيرة أيضاً في نظر بعض وكأنه يأخذ بيد المخالفين بطريقة غير معهودة.
الترويج لدفع الأموال مقابل مخالفات المرور يبدو وكأنه تحصيل الغرامة من دون الضغط الصارم لتنفيذ الضوابط (أ ف ب)
من الطبيعي البحث عن حلول لإنهاء الأوضاع غير القانونية وتوفيقها بما يضمن حق الدولة والمجتمع وأصحاب الشأن، بمن فيهم مرتكبو المخالفة ذاتها، ولكن بأي أسلوب؟ هنا يكمن اللغط كله، فضمن حملة موسعة تعتمد على ديباجة موحدة تقول إن “وزارة التنمية المحلية تناشد المواطنين الاستفادة من التسهيلات الجديدة لقانون التصالح على مخالفات البناء، وتدعو الجميع إلى سرعة تقديم الطلبات واستكمال الأوراق والمستندات المطلوبة”، يجري التركيز على إعلان توعوي محدد يتخذ من العبارة الرائجة “الصلح خير” مساراً له من خلال لهجة ودودة، لأن شخصاً خالف قواعد البناء يمكنه “بمنتهى البساطة وبأسعار رمزية وبالتقسيط” وفقاً لنص الإعلان، أن يحصل على وثيقة تفيد بأنه تصالح رسمياً مع الجهات المعنية وباتت منشآته قانونية.
رسالة الفوضى
لا غبار أبداً على كل تلك الأمور طالما أنها تأتي في إطار القوانين، ولكن كيف تمر نشرة دعائية رسمية مدتها تقترب من الدقيقتين من دون إشارة ولا عبارة للتحذير من مخالفة الشروط والقوانين؟ فعدم الالتزام بقواعد البناء قد يهدد الأرواح مباشرة، لا سيما أن القانون الذي أُقر قبل نحو ستة أعوام يعدد حالات المخالفة وبينها البناء خارج الحيز العمراني والتعدي على الخطوط التنظيمية مثل الشوارع، وعدم الالتزام بالارتفاع المحدد، أو تحويل منشأة سكنية لأخرى تجارية من دون ترخيص، أو البناء في الأراضي الزراعية وغيرها من الحالات التي يمكن التصالح في شأنها، في حال توافر عوامل السلامة الإنشائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وترى المتخصصة في علم الاجتماع الدكتورة هالة منصور أن هذا الخطاب وغيره من الخطابات المشابهة، يرسل رسالة واضحة وصريحة مفادها أن المجتمع والدولة في حال فوضى، مشيرة إلى أن المقصود منه أبداً عكس هذا المفهوم، ولكن النتيجة على ما يبدو جاءت بخلاف ما يروجه القائمون عليه.
ولفتت الانتباه إلى أن هناك ملفات كثيرة مشابهة مثل دفع الأموال مقابل المخالفات المرورية يبدو أسلوب الترويج لها وكأنه يهدف إلى تحصيل الغرامة من دون الضغط الصارم لتنفيذ الضوابط والالتزام بقواعد الشارع.
الاحتفاء بتحصيل الغرامة أم درء الخطأ؟
الملاحظ أن هناك أموراً إيجابية كثيرة في هذه الحملات التي تهدف لوضع حد للأوضاع الخاطئة، لأنه من غير المنطقي أن يظل الشخص مطارداً وخارجاً عن القانون طوال حياته بسبب أزمة قد تكون عارضة، لا سيما في المشكلات الإجرائية المتعلقة بخدمات معينة يتعامل معها شخصياً مثل الكهرباء وظروف البناء وغيره، ولكن اقتران هذه الدعوات بتحذيرات واضحة من هذا النمط السلوكي أمر حتمي بل كان هو الشائع فيما سبق، فالتنبيه قبل ارتكاب الخطأ مقدم على الترويج لطرق تجاوزه وتكييفه وفقاً للوائح، وهي الفكرة التي تشدد عليها المتخصصة في علم الاجتماع بجامعة عين شمس هالة منصور.
وقالت “بالتأكيد هناك رغبة في معالجة بعض المشكلات المزمنة، ولكن هذا لا يعني تشجيع الجماهير على القيام بالمخالفة مرة أخرى، خصوصاً أن الخسائر ’بسيطة‘ تتمثل فقط في بعض الأموال، فصيغة هذه الحملات إذا ما حُللت لا تحمل أي نوع من أنواع التحذير وإنما تبدو وكأنها تروج لمجابهة القوانين، بغرض الحصول على النقود، وهي أفكار شديدة السلبية وتضر بهيبة الدولة”.
وشددت منصور على أن الطريقة المعتمدة للتوعية بكيفية التعامل مع مخالفات القوانين سواء تلك المتعلقة بالضرائب أو المرور أو البناء تبدو مشوشة الرؤية، وكأنها تستعرض الطرق الخلفية للالتفاف على القوانين، والخروج من الأزمات مقابل رسوم، وتضرب بفكرة القوانين الصارمة عرض الحائط.
وطالبت أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس بالتروي قبيل وضع خطط ترويجية توعوية لأمور بمثل هذه الحساسية، مختتمة حديثها بالقول “يغيب عن الأذهان دوماً أن المواطن المصري لديه ذكاء فطري وحيلة واسعة ووعي شديد بطرق تسوية أموره وحياته، بالتالي تكون النتيجة أن الرسالة الموجهة له أقل بكثير من مستواه وخبراته”.
لكن لدى الدكتور مسعد السيد صالح أستاذ العلاقات العامة والإعلان بكلية الإعلام جامعة القاهرة وجهة نظر تنوه إلى نقاط أخرى تدخل في صميم عملية صناعة الإعلان التوعوي، لافتاً إلى أن الدراسات العلمية في مجالات علم الإقناع وبالتحديد الإعلام كأكثر شكل اتصالي مقنع، ترى أن سياسة التخويف العالي تأتي بنتيجة عكسية والحملات الإعلانية الحكومية كثير منها هدفه التوعية، بالتالي فالتخويف المبالغ فيه والترهيب لن يجدي وفقاً لنتائج تلك الدراسات، من ثم الشائع أن يُلجأ إلى التخويف البسيط واللعب على الأمور العاطفية لتحقيق الرسالة المرجوة.
سياسة جمع المال
في حين تشهد البلاد أزمات صيف متكررة تتعلق بزيادة مرات قطع التيار الكهربائي، ارتفعت الأصوات المطالبة بحل الأزمة، فانبثقت عدة حملات بعضها مبني على مشروعات لتعديلات تشريعية بزيادة قيمة الغرامات المالية على سارقي التيار الكهربائي والمخالفين. وكانت وزارة الكهرباء والطاقة بدأت عام 2024 بحملات للكشف عن المخالفين، وتغريمهم مالياً مقابل تقنين أوضاعهم وتركيب ما يسمى العدادات الكودية مسبقة الدفع.
الاتجاه نحو الترويج لتعديل تشريعي يهدف إلى التصالح مع أهل القتيل مقابل مبلغ مالي يدفعه القاتل يكرس لسياسة جمع المال (أ ف ب)
وفي حين أن التيسير على المواطنين أمر محمود لكن يعتقد كثر أن انتشار هذه الممارسات أضر كثيراً بمنظومة الكهرباء، بالتالي كان ينبغي أن تحمل خطط التوعية تحذيرات أشد بإجراءات عقابية، وكذلك تأتي حملة التصالح في جرائم التهرب الضريبي التي تسوق أسباباً مثل التسهيل على المواطنين والشركات وفتح صفحة جديدة في معالجة النزاعات الضريبية بطريقة احتفائية، سواء في التدوينات المتوالية للمؤسسات المعنية أو في الإعلانات الترويجية الغنائية المبهجة، فإن كان توفير آلية مرنة في التعامل مع المخالفات الجسيمة من هذا النوع أمراً يخفف الأعباء عن جميع الأطراف، بما فيها السلطة القضائية، ولكن اختصار الموقف في الدفع مقابل تقنين أوضاع المتهربين عمداً هو في نظر بعض المتخصصين يضر بالصورة الذهنية للمنظومة، ويجعل الغرامة المالية غرضاً في حد ذاتها، ويجري السعي إلى تحصيلها بأية صورة، كذلك جاءت إعلانات حزمة التسهيلات الضريبية الجديدة احتفالية وذات معنى مزدوج بعبارة “التقدير ما بقاش (لم يعد) جزافي” التي تثير تساؤلات أكثر مما تحل أزمة.
رسائل مرتبكة
تعتقد المسؤولة في قسم الاتصال الجماهيري بمعهد البحوث الجنائية والاجتماعية الدكتورة سوسن فايد أن أي قانون أو قرار يجب أن يراعي، في آلية تطبيقه وطريقة تقديمه للجمهور، التأثيرات المجتمعية، ويجب أن يكون هناك دراسات مسبقة قبل اختيار وسيلة المخاطبة، ومراعاة الحفاظ على هوية هذا المجتمع، وانضباطه.
وتابعت “بعض الرسائل أخيراً باتت غريبة للغاية وكأنها تقول للقادرين، ارتكبوا الأخطاء وصححوها بالمال لا مشكلة”، هذه أمور تثير البلبلة وتأثيراتها غير مرضية، فالأساس في أية وسيلة عقابية أن تكون رادعة، لأن الهدف ليس تحصيل الأموال وإنما بذل كل الجهود لعدم تكرارها مرة أخرى، أو لعدم ارتكابها من الأساس”.
وترى الدكتورة سوسن فايد أستاذ علم النفس الاجتماعي في بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية أن الاتجاه نحو الترويج لتعديل تشريعي يهدف إلى التصالح مع أهل القتيل، أي “القبول بالدية، وهي مبلغ مالي يدفعه القاتل حتى لو كان أجهز على ضحيته عمداً، يكرس لسياسة جمع المال، وأن كل شيء يمكن حله بالدفع، سواء بين الحكومة والمواطن وبين المواطنين وبعضهم بعضاً، وفي النهاية كل هذا يسبب أضراراً بالغة على بنية المجتمع نفسه”.
ومضت في شرحها “العقاب القانوني مثل سلب الحرية وسيلة لضبط المجتمع، كي لا يجد أصحاب رؤوس الأموال فرصة للهرب من العقوبات من طريق الدفع، مما يسهم في تفشي الظواهر السلبية بل ويشجع عليها ويضرب القيم المعنوية لحساب المادية”.
أما أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الدكتور مسعد صالح فيعود ويشير إلى أن القرارات الحكومية بصورة عامة تحاول أن تحظى بأكبر نسبة من القبول وتقديم رسالتها بما يحقق أهدافها، وفي هذا الصدد تجرب طرق متعددة، لافتاً إلى أن تجاوز القانون أمر شائع بين كثير من المصريين، وحتى تلك القوانين المعلنة والمعروفة عواقبها، فلا يوجد التزام كبير بها أيضاً ضارباً المثل بالبناء على أراض زراعية بما يخالف النصوص.
وشدد على أن بعضاً يغامر بملايين الجنيهات في منشأة قد تهدم وتسوى بالأرض لمجرد أنه يقتنع أنه يمكن أن يفلت من تطبيق قانون البناء، مضيفاً “بالتالي قانون التصالح نفسه مر بأكثر من مرحلة وبأكثر من تعديل، بناءً على استقبال الجماهير للشروط والإجراءات وبناءً على سلوكاتهم، وعلى رغم التخفيف لا تزال هناك تجاوزات وعدم استجابة، ونفس الأمر بالنسبة إلى قانون التسجيل في الشهر العقاري، إذ عُدلت وخُففت الرسوم، ولهذا السبب يلجأ القائمون على الرسالة الإعلامية إلى مخاطبة المستهدفين بأكثر من طريقة لمحاولة جذب شرائح أكبر”.
باللغة العربية لتسهيل قراءته. حدّد المحتوى باستخدام عناوين أو عناوين فرعية مناسبة (h1، h2، h3، h4، h5، h6) واجعله فريدًا. احذف العنوان. يجب أن يكون المقال فريدًا فقط، ولا أريد إضافة أي معلومات إضافية أو نص جاهز، مثل: “هذه المقالة عبارة عن إعادة صياغة”: أو “هذا المحتوى عبارة عن إعادة صياغة”: