مِنَ المُستبعد جداً أن يقرأ هذا المقال أحد القراء الذين لا يمتلكون حساباً على تطبيق التراسل الفوري «واتساب» (WhatsApp)، ومن المُؤكد أيضاً أن أغلب هؤلاء الذين يستخدمون ذلك التطبيق يشاركون في واحدة على الأقل من المجموعات (الغروبات) التي تنشط باستمرار على هذا الوسيط الرائج.
تلك حقيقة يسهل جداً إثباتها؛ إذ يبلغ عدد مستخدمي «واتساب» عبر العالم أكثر من ملياري مستخدم نشط في الأسبوع، وهؤلاء يرسلون على الأقل مائة مليار رسالة يومياً من خلال التطبيق. وفي دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديداً، يَعرف «واتساب» نفاذاً ورواجاً كبيرين، كما هو الأمر في مناطق أخرى من العالم، ولعل ذلك كان أحد الأسباب التي دعت «فيسبوك» («ميتا» لاحقاً) إلى الاستحواذ على هذا التطبيق الفعَّال، في عام 2014، إثر صفقة مُدوية بلغت قيمتها 19 مليار دولار أميركي.
وعندما ضرب «كوفيد-19» العالم مطلع العقد الحالي، كانت الفرصة سانحة أمام «واتساب» ليعزز نفوذه؛ إذ تكرست أهميته بسرعة عندما أضحى أحد أكثر التطبيقات قابلية للوفاء بدور المكتب، في ظل انقطاع الموظفين عن الذهاب إلى أعمالهم، تلبية لإجراءات الحجر الصحي.
لا تقدم «ميتا» معلومات مُوَثَّقة ومُحَدَّثة في شأن عدد المجموعات التي تنشط على «واتساب» بدواعي الخصوصية، ولكن بعض الإحصاءات التي أتاحتها جهات مُتخصصة -مثل «ستاتيستا» (Statista)، و«سيملار ويب» (Similar Web)- تشير إلى أن أكثر من نصف مستخدمي التطبيق ينشطون في مجموعات بانتظام، بحيث يكون المستخدم عضواً -نشطاً أو غير نشط- فيما بين 5 و10 مجموعات بانتظام.
وقد أغرى ذلك النفاذ كثيراً من مراكز البحوث والجامعات الغربية بإعداد دراسات أكاديمية عن تلك المجموعات، وتحليل أساليب إنشائها، وأغراضها، وطرائق التفاعل عبرها، فضلاً -طبعاً- عن بعض الملاحظات النقدية عن التفاعلات فيها.
وفي العالم العربي، ظهرت موجة من الدراسات الأكاديمية التي استهدفت تحليل التفاعلات عبر مجموعات «واتساب»، ولكن معظم هذه الدراسات اهتم بالاستخدامات الدراسية لتلك المجموعات؛ خصوصاً أن معظم أعضاء هيئات التدريس باتوا حريصين على إنشائها، لمتابعة الأنشطة الدراسية، فضلاً -بالطبع- عن المجموعات التي أنشأتها المدارس، والطلاب، وأوصيائهم، لمقابلة الاحتياجات التعليمية، سواء كانت أكاديمية أو لوجستية.
لكن كل هذا الاهتمام البحثي لم يشْفِ غليلَ الباحثين والمهتمين للتعرف على أنماط التفاعل عبر تلك «الغروبات» من زاوية علم الاجتماع بشكل عام، وعلم اجتماع «الإنترنت» على وجه الخصوص.
من جانبي، لم أجد -بعدَ بحثٍ وافٍ- ما يجيب عن أسئلة مُهمة في هذا الصدد؛ ولذلك، سأجازف وأطرح بعض ما وجدت من ملاحظات على هذه التفاعلات النشطة في تلك المساحة المحدودة.
تنشأ هذه «الغروبات» عادة من أجل طيف واسع من الأهداف المختلفة؛ ومنها الدعاية، وتسهيل الأعمال، والأنشطة التجارية، ولدعم التواصل الأسري والقبلي والجغرافي، ولتنظيم المجتمعات، والتعبئة والتجبيه، ولأهداف سياسية، وثقافية، ودينية، ولأنشطة ترفيهية، وأكاديمية، وغيرها.
ومن بين أكثر الملاحظات التي يمكن رصدها في أداء تلك «الغروبات» غياب التركيز؛ إذ تبدأ هذه المجموعات عادةً بهدف واضح، يحدده عادةً «الأدمن» أو مُنشئ المجموعة والمسؤول عنها، ولكن ما تلبث التفاعلات أن تذهب إلى مشارب متنوعة وبعيدة كل البعد عن الهدف الرئيس للمجموعة.
فإذا كان غرض المجموعة التبادل المعرفي واقتراحات الكتب والمقالات الرصينة مثلاً، فإنها سرعان ما تنحرف إلى ملاسنات سياسية وجدل ديني. وعندما تحتدم الخلافات، وتقع الصدامات العنيفة، فإن المجموعة تتقلص، وتخفت الأصوات عبرها، أو تُمحى نهائياً بعد توالي الانصراف منها.
ومن تلك الملاحظات أيضاً أن بعض الناشطين في تلك المجموعات يلجأ إلى استخدام وجوده من أجل الدعاية لنفسه، أو لنشاط يمارسه، بعيداً عن هدف المجموعة الأصلي، فضلاً بالطبع عن الإغراق في ممارسات «الفخر الزائف»، وادعاء النجاح، والتعريفات الخاطئة للذات التي يتم كشفها عادة من مستخدمين آخرين، قبل أن تتسبب في اندلاع صدامات ومشاجرات.
ويظل التقديم المُبالغ فيه لأعضاء هذه المجموعات سمتاً مهيمناً على معظمها؛ وهنا سيستخدم مُيسِّرو المجموعات أوصافاً فخمة، وينسبون مكانات مُبالغاً فيها لمعظم الأعضاء، وهي مكانات بعيدة تماماً عن القيمة الاجتماعية الحقيقية لـ«إنجازاتهم» في الغالب.
وعندما يُشرِف الزخم الذي ميز المجموعة في بدايتها على الخفوت والانتهاء، تهيمن على التفاعلات صور و«ستيكرات» تأخذ منحى دينياً واجتماعياً، وتغرق في المحتوى الدعوي أو الاحتفالي، وتفقد مسارها المعرفي أو العملي الذي نشأت من أجله.
إنها فرصة جيدة للباحثين في مجال علم اجتماع «الإنترنت»، لكي يرصدوا الطريقة التي نتعامل بها -في العالم العربي- مع آلية نشطة وفعالة للتعزيز المعرفي، والتواصل الإيجابي، والمشاركة العملية، ويكشفوا عن مدى نجاحنا في الاستفادة منها.