البحث عن قوانين ثابتة، نهائية، سواء لبعض الأشكال الأدبية، أو لما يميّز الأدب عن غيره من أشكال الكتابة، أو لما يصوغ “أدبية الأدب”.. لم يسفر (هذا البحث) في أية فترة من فترات التاريخ، عن تصورات نهائية ومكتملة يمكن الاحتكام لها والاطمئنان إليها. ولعل الاستنتاج الوحيد، الذي يمكن الخلوص إليه من رحلة هذا البحث، هو أن “الحراك” الدائم يمكن أن يكون هو القانون الثابت الوحيد الذي يسيّر تاريخ الأشكال الأدبية، والذي يكمن وراء تغيّر مفهوم “أدبية الأدب” ذاته، وأن سياقات إنتاج النصوص الأدبية، وسياقات تلقّيها (وهي سياقات متغيّرة بالطبع) تمثّل موجّهات لمغامرات الكتابة وموجّهات لكيفيات تلقيها وللحكم عليها؛ وموجّهات لإدراجها في هذا الشكل الأدبي أو ذاك، بل (في بعض الحالات) للتسليم بكونها ماثلة داخل دائرة الأدب، أو قائمة على حدود هذه الدائرة، أو واقعة فيما يترامى خارجها. والأمثلة في هذه الناحية أكثر من أن تحصى.
كانت هناك “تنظيرات” و”تقعيدات” (أو وضع قواعد) كثيرة للتمييز بين الشعر والنثر، في الموروث النقدي العربي القديم، مثلا، ولكن هذه التنظيرات والتقعيدات لم تصمد طويلا أمام مغامرات الكتابة المتجددة في الشعر وفي النثر معا. وكانت هناك محاولات متعددة للبحث عن سمات الشكل الروائي، في الموروث النقدي الغربي، ولكن تمرّد على هذه السمات، ولا يزال يتمرد، النتاج المكتوب بهذا الشكل المرن الذي يتميز بأنه، تقريبا، “شكل بلا شكل”؛ لأن الرواية بناء مفتوح على ما لا حصر له من أشكال التعبير. وكانت هناك “نماذج” وتصورات تبدو شبه محكمة تبحث عن الملامح المميزة لشكل القصة القصيرة [أشهرها نموذج إدجار آلان بو، ثم إلى حدّ ما تصوّر فرانك أوكونور في كتابه “الصوت المنفرد”]، ولكن الكتابات القصصية القصيرة لم تحفل أو تهتمّ أبدا بمثل هذه النماذج والتصورات. وكانت هناك، بجانب هذا، محاولات بعض النقاد للبحث عن “أدبية الأدب” ولتحديد اللغة الأدبية ـ ومنها محاولة “الشكلانيين الروس” في العقود الأولى من القرن الماضي.. ولم تصل مثل هذه المحاولات إلى تمييز حقيقي لهذه الأدبية ولا لتلك اللغة.. إلخ. هم، مثلا، يميزون بين اللغة الأدبية واللغة غير الأدبية، بأن الأولى تقوم على نوع من “الانحراف” عن علاقات اللغة العادية، ولكننا يمكن أن نجد هذا الانحراف في اللغة التي يستخدمها الأطفال، أو التي يستخدمها المجانين.. وقد كان هذا ردا على هذا المفهوم الذي طرحه الشكلانيين الروس في بحثهم عن سمات لغة الأدب.
ما الذي بقي، إذن، من السعي المتواصل إلى التقعيد والتنظير للأشكال الأدبية، ثابتا وقادرا على الصمود في مواجهة المغامرات الإبداعية المتجددة؟
أو: ما الذي استطاع، من بين كل التصورات حول الأدب ودوائره النوعية، أن “يواكب” حركة اندياح حدود الأنواع والأشكال الأدبية وتداخلها واستنانها لأعراف جمالية متغيرة من فترة لأخرى، ومن سياق لسياق؟
في تاريخ الأدب، العربي كانت وظلت دائما “الاتفاقات” حول “الأشكال الأدبية” في حالة حراك واضح. وعبر فترات متعددة من هذا التاريخ تغيرت الأعراف التي تدرج، أو لا تدرج، أشكالا مثل “المقامة”، و”الرسائل”، و”الخطابة”، و”المساجلات”، و”الخبر”..إلخ، ضمن مجال الأدب. وفي وجهة معاكسة، كانت هناك بعض كتابات النثر الصوفي، التي أنتجت في زمن وفي سياق بعينهما، لم ينظر فيهما إلى هذه النصوص باعتبارها “أدبا”.. ولكن هذه النصوص، في زمن آخر وسياقات أخرى، تحولت إلى جزء من التراث الأدبي. والأمر نفسه يمكن ملاحظته في تاريخ الأدب الغربي، بتمثيلات متعددة طالت بعض أشكال الكتابة التي صعدت وازدهرت ثم اختفت، كما طالت صعود وانحدار وتحوّر أشكال أدبية متعددة.
السؤال عما يصوغ كل هذا الحراك، في مسيرة الأنواع والأشكال الأدبية، وفي تغير معنى الأدب نفسه، تتصل الإجابة عنه، طبعا، بأسباب كثيرة. من هذه الأسباب ما يرتبط بالمبدعين أنفسهم؛ بمغامراتهم المتجددة التي يمثل بعضها اختبارات دائمة وحقيقية لحدود “نظرية النوع الأدبي”. ومن هذه الأسباب ما يتعلّق بالسياقات المتنوعة، تاريخيا وثقافيا وغير ذلك، التي يمكن أن تقود إلى صياغة معايير متعددة للتعامل مع الأنواع والأشكال الأدبية، لإنتاجها ولتلقيها معا، ولتحديد قيمها الجمالية والمعرفية.