جنازة بابا الفقراء
كان البابا فرنسيس الأول الذي يأتي من الرهبنة اليسوعية وأول بابا من أميركا الجنوبية في تاريخ الكنيسة، وبالتحديد من الأرجنتين. وقد كرّس نفسه كنموذج للتواضع، حتى في وداعه الأخير وفي موته.
وأوصى بجعل جثمانه في متناول المؤمنين داخل كاتدرائية القديس بطرس منذ 23 أبريل، لا ليُدفن فيها بجوار البابوات الآخرين، بل أن ينقل جثمانه إلى بازيليك سانتا ماريّا ماجّوري، في العاصمة الإيطالية روما، ليدفن هناك، حسب وصيته. فهو، في الواقع، أسقف روما، وسيُدفن بجوار أيقونة "خلاص شعب روما" – Salus Populi Romani للسيّدة مريَم العذراء التي أحبَّها، والتي كان يعود إليها قبل وبعد كل زيارة من زياراته.
ومن المتوقع أن يتوافد الآلاف من مختلف أنحاء العالم لوداعه، على أن يترأس الكاردينال جوفان باتّيستا رِيْ، عميد مجمع الكرادلة، القداس الجنائزي في الساعة العاشرة من صباح السبت (بتوقيت روما) في ساحة القديس بطرس، بحضور أكثر من 200 ألف شخص، وعدد كبير من رؤساء وحُكام العالم، من بينهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والفرنسي إيمانويل ماكرون، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والبرازيلي لولا دا سيلفا والأسرة الملكية الإسبانية.
المجمع المغلق.. المواعيد والطقوس
تنص قوانين الفاتيكان الكنسية على أن يبدأ الكونكلاف (المجمع المغلق وهو الطريقة الرسمية والمعتمدة منذ القرن الـ12 لانتخاب بابا الكنيسة الكاثوليكية) ما بين اليوم الـ15 والـ20 بعد وفاة البابا. وبناءً عليه، سيُعقد المجمع لانتخاب البابا الجديد ما بين يومي 5 و10 مايو. وستسبقه جلسات تُعرف بـ"الاجتماعات العامة"، يشارك فيها جميع الكرادلة، بغض النظر عما إذا كان يحق لهم التصويت لانتخاب البابا الجديد أم لا، وذلك لمناقشة احتياجات الكنيسة، وصفات الحبر الأعظم المقبل.
وتُشكّل هذه الاجتماعات فضاءً للتأمل الروحي، لكن أيضاً تُعد مساحة للمداولات غير الرسمية والتحالفات، وتبادل التقديرات بين الكرادلة، قبل أن تُغلق أبواب كنيسة السيستينا، ويبدأ التصويت السري.
من ينتخب؟.. تركيبة مجمع الكرادلة
يتكوّن مجمع الكرادلة اليوم من 135 كاردينالاً يحق لهم الانتخاب، أي من تقل أعمارهم عن 80 عاماً، وينتمون إلى 71 بلداً. ومن اللافت أن 108 منهم قد تم تعيينهم من قبل البابا فرنسيس نفسه، مما قد يؤثر على مسار التصويت ويمنح استمرارية لنهجه.
ويعكس هذا التوزيع التحوّل نحو كنيسة عالمية التمثيل، غير متمركزة في الغرب كما كان الحال لقرون مضت.
أبرز المرشحين
رغم أن الكونكلاف يظل محاطاً بالسرية، إلا أن بعض الأسماء صارت تتردد، حتى قبل وفاة فرانسيس، فقد تداولت الأوساط الفاتيكانية ووسائل الإعلام خلال فترة رقاد البابا الراحل في المستشفى أسماءً مرشحة لحمل صولجان بطرس، ومن أبرز هذه الأسماء:
الكاردينال بييترو بارولين (إيطاليا): أمين سر دولة الفاتيكان، ورجل دبلوماسي بارع، يحظى باحترام واسع ويُمثل خطاً معتدلاً ومستقراً. عمره 70 عاماً.
الكاردينال لويس أنطونيو تاجلي (الفلبين): رئيس مجمع تبشير الشعوب، وكان سابقاً رئيس أساقفة مانيلا. يُعتبر واجهة الكنيسة الآسيوية وتلميذاً فكرياً وروحياً للبابا فرنسيس. عمره 67 عاماً.
الكاردينال ماتيو تسوبي (إيطاليا): رئيس أساقفة مدينة بولونيا الإيطالية، ورئيس مجلس الأساقفة الإيطالي، معروف بانفتاحه الاجتماعي ودعمه للسلام والشباب، وعمره 69 عاماً.
الكاردينال جان مارك أفيلين (فرنسا): رئيس أساقفة مرسيليا، صوت قوي في قضايا الهجرة والحوار بين الأديان. عمره 65 عاماً، وهو من مواليد الجزائر.
هل سيكون البابا من إفريقيا أو آسيا؟
ورغم صعوبة أو عدم احتمالية حدوث ذلك، فإن أسئلة حوله صارت تُطرح، بالذات بعد تكرار حالات انتخاب البابا من خارج دائرة التأثير الإيطالي، بالذات بعد صعود يوحنا بولس الثاني (البولندي كارول فويتيلا)، وبينيديكتس الـ16 (الألماني جوزيف راتزينغر)، وفرانسيس نفسه (الأرجنتيني خورخي ماريو بيرجوليو)، وبالتالي يُطرح سؤال جدّي: هل حان الوقت لانتخاب بابا إفريقي أو آسيوي؟
تُعد إفريقيا اليوم من أكثر القارات نمواً على المستوى الكنسي، وهي ممثلة في الكونكلاف بـ 16 كاردينالاً ناخباً. ومن أبرز المرشحين: فريدولين أمبونجو (الكونغو)، وبيتر توركسون (غانا). وسيكون انتخاب أحدهما بمثابة اختراق تاريخي.
أما في آسيا، يظل الكاردينال تاجلي أبرز الأسماء، حيث يتمتع بشعبية عالمية، ويجسد صورة كنيسة منفتحة على الثقافات غير الأوروبية.
أي كنيسة بعد فرانسيس؟
تبدو الكنيسة الكاثوليكية اليوم عند مفترق طرق، فإما أن يتم انتخاب بابا يواصل نهج فرنسيس، أي ما يعني الاستمرار في مسيرة الانفتاح، والرحمة، والاهتمام بالمهمشين، وهو ما سينعكس في دعم كنائس الجنوب العالمي، وتوسيع دور المرأة، وتفعيل المجالس المحلية.
ومن الناحية الأخرى، قد يجلس على العرش بابا محافظ، وحينذاك سيعني العودة إلى المركزية، وتركيزاً أكبر على العقيدة والانضباط، ما قد يُرضي بعض الدوائر التقليدية، لكنه قد يُثير خيبة أمل واسعة في أوساط الشباب والتقدميين.
لحظة حاسمة
ما سيشهده كونكلاف 2025 يكون من أكثر الأحداث حساسية في تاريخ الكنيسة الحديث، لأن ما سيتمخّض عنه لن يكون مجرد انتخابٍ لخليفة القديس بطرس، بل تحديدُ ملامح الكنيسة لسنوات أو ربما لعقود قادمة.
سيكون هذا القرار بمثابة تحديد لاتجاه الكنيسة في المستقبل، مع مراعاة العوامل السياسية والدينية والاجتماعية التي تؤثر على قراراتها. سيكون هذا الاختيار حاسماً في تشكيل مستقبل الكنيسة وقيادتها في مواجهة التحديات والفرص التي تواجهها في القرن الحادي والعشرين.