على مدي أربعة أيام اجتمع نحو مائة من كبار الأكاديميين والخبراء العرب في مدينة الحمامات الهادئة بتونس الخضراء، لمناقشة عدد من الأبحاث العلمية والأوراق الفكرية في إعمال المؤتمر الفكري العربي الدولي الذي كان عنوانه “نحو بناء منظومة فكرية عربية”.
وتضمنت جلسات المؤتمر عددا كبيرا من الأبحاث والدراسات في مختلف القطاعات السياسية والعلمية والاقتصادية والقانونية، وغيرها.
ومن بينها كانت أهمية ودور الحقائب الإعلامية حاضرة وبقوة في إطار هذا المؤتمر العلمي الدولي.
وتبين في كل الجلسات العلمية باختلاف تخصصات باحثيها أن الإعلام شريك أساسي في إحداث التغيير و التجديد، من منطلق الأهمية الكبيرة للإعلام في تشكيل المجتمع وبناء الوعي، ورغم أنه كثير من الانتقادات توجه الآن إلى أداء الإعلام، إلا أن الأصل هو الإيمان بقوة الإعلام الشريف في إحداث التأثير المرجو في التغيير والتجديد للأمة العربية.
وكان التساؤل حول ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام العربي في بناء منظومة فكرية عربية تساعد في إعادة وضع الدول العربية على الخريطة العالمية الإنسانية من جهة، وتعيد ترتيب وتنوير العقل والفكر العربي من جهة أخرى؟
وكانت الإجابات صعبة لتعقد المشهد الإعلامي.
ولكن يمكن في السطور القادمة نتناول أهم ما طرحته الدراسة الإعلامية البحثية لهذا المؤتمر والتي تشرفت بتقديمها، وكان في مقدمة الحلول ضرورة تعزيز دور الدراسات والبحوث الإعلامية في دعم تحديث البيئة العربية الإعلامية ورصد مسارات وسائل الإعلام المختلفة من خلال الإيمان بدور الإعلام كشريك رئيسي في صناعة التجديد العربي.
ودراسة دور وسائل الإعلام في رصد أسباب القوة والضعف في المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وكذلك جدلية اللغة والفكر في الخطاب الإعلامي ودور وسائل الاتصالات الجديدة في تزييف الوعي العربي أو بنائه.
والوقوف على دور وسائل الإعلام في مواجهة الأزمات والتحديات والإهتمام بالقيم والأخلاقيات الإعلامية و رصد التعامل مع مواثيق الشرف الإعلامية، من منطلق أن الإعلام علم بيني يجب التماس فيه مع كافة العلوم الأخرى.
ورغم حالة النقد التي يعلنها العديد من المهتمين بسبب عدم تقدير قيمة البحث والدراسات في المجتمع العربي وبصفة خاصة المجال الإعلامي، إلا إن ذلك يدعو إلى ضرورة دعم دور البحوث الإعلامية لرسم الخريطة المعرفية للوطن العربي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودور الإعلام العربي في وضع أطر مساعدة لعملية التجديد لمرحلة الفهم للتحديات وفهم أن العلاقة بين وسائل الإعلام والمجتمع العربي متكاملة لا تنفصل وتعبر عنه بشكل أو بآخر.
والإعلام مرتبط بالمناخ السياسي والاجتماعي ويواجه تحديات كبيرة في التقدم في الإطار القانوني والمهني والأخلاقي في عدد من البلدان العربية، رغم أن الإعلام له قوة هائلة وإمكانيات كبيرة إن صح الاستخدام الأمثل في ذلك.
ويواجه الإعلام العربي مشكلات كبري مثل الاستقلال وغياب المهنية وسيولة النظام المجتمعي.
وعدم وجود خطط وطنية واضحة للإعلام العربي في تفهم التجديد والتحديث و التطوير.
كذلك الانفصال عن قيم المهنة، وعدم ظهورها في المحتوى الإعلامي مع ثورة وسائل الاتصال الجديد، وظاهرة المواطن الإعلامي بدون تعليم إعلامي أو تأهيل أو تدريب، مما سبب أزمة كبيرة في العقل الجمعي العربي، وهذا يتطلب مواجهته من خلال الأداء الإعلامي المحترم والهادف.
ومن أهم التحديات أيضا غياب واضح لمصفوفة قضايا الإعلام الجاد وربطها بأجندة وأولويات التجديد والتحديث والتطوير في الوعي العربي.
كل ذلك يستوجب الحاجة إلى طرح نموذج إعلام عربي بديل عصري وداعم لقيم التجديد والتحديث من خلال رؤية استراتيجية بمصفوفة قضايا واضحة تتجانس مع مشروع التجديد العربي.
والاستفادة من إيجابيات منصات الإعلام الجديد والتأهيل المستمر للإعلاميين وبصفه خاصة الشباب.
والجانب الاستراتيجي في هذه الرؤية الإعلامية العربية في التجديد العربي يعتمد على طرح مجموعة من المضامين لابد من إدماجها في الخطابات الإعلامية المستقلة، ومنها دعوة الإعلام إلى تعزيز مناخ الإبداع والتعليم النقدي.
واهتمام الإعلام ببناء مجتمع المعرفة الاستشاري في التكنولوجيا بما يساعد أهداف التنمية المستدامة حيث يمكن للإعلام لعب دور مهماً في تحقيقها.
وعلى مستوى الجانب الإجرائي، فمن المهم لتنفيذ هذه الرؤية الاستراتيجية الفكرية وجود عدد من الآليات الإجرائية لضمان تحقيق هذه الرؤية ومنها: الاهتمام بتدريب الإعلاميين على قيم المهنية للمحتوى الإعلامي من خلال التعاون المستمر بين كليات الإعلام والأكاديميات في الوطن العربي والمؤسسات الإعلامية من أجل تحقيق ذلك.
ثم التعاون المستمر بين الجهات ذات العلاقة بإنتاج المحتوي الإعلامي وبصفة خاصة الإعلام الجديد، لإنتاج محتوي إعلامي يتناسب مع فئات الشباب والمرأه والفئات المهمشة في المجتمع، مع دعوة الإعلام العربي لتطوير الشكل والأساليب الإعلامية البصرية تماشيا مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
ودعوة رجال الأعمال إلى الاستثمار في الإعلام من أجل ضمان إنتاج محتوي إعلامي مستقل وموضوعي بعيداً عن الرقابة والتدخلات لتحفيزهم على الاستثمار في الإنتاج السينمائي والدرامي باعتبار الدراما من أسهل وأقوى أنواع الإعلام المؤثرة في بناء الوعي العربي.
ومن الأهمية تعزيز دور مقررات التربية الإعلامية الرقمية والدعوة إلى تدريسها بجميع المراحل التعليمية للتأكد من إمتلاك المواطن العربي لمهارات الوعي للتعامل مع الإعلام وعدم التأثر بالمضامين الزائفة.
ومن المبادئ المهمة الأخرى التي على الإعلام العربي التمسك بها من أجل بناء الفكر العربي قيم قبول احترام الآخر، وتعزيز مساحات التنوع الثقافي والفكري من خلال قيم التسامح والتفاهم و مواجعة التعصب والتنمر الإلكتروني الذي يشهده الإعلام العربي الآن في العديد من المجالات المختلفة السياسية والاجتماعية والرياضية.
كذلك يجب للإعلام أن يقدم قضية حقوق الإنسان والحريات والعدالة الاجتماعية بطريقة متوازنة والتي تمثل عائقاً في التعامل معها، وإعادة النظر والتفكير في آليات تسمح بتقديم أفكار الحريات والحوكمة ومواجهة الفساد بطريقة موضوعية ومهنية متوازنة.
كذلك على الإعلام العربي أن يعيد من جديد قضايا التكامل العربي ومفهوم العروبة على الصدارة الإعلامية من جديد، بعد أن خفت صوتها في السنوات الأخيرة وانغلقت كل دولة عربية على حالها من شدة الأحداث.
فالخطاب الإعلامي هو خطاب لصيق للخطاب الثقافي وهما وجهان لعملة واحدة، حيث إن الإعلام بلا ثقافة هو جعجعة بلا طحن، والثقافة بلا إعلام هي منعزلة في برج عال لا تؤتي ثمارها المرجوة، وهنا تتجلى فلسفة هذه الرؤية في الارتباط الضمني بين القطاعين في المرحلة المقبلة من مرحلة التحديد الفكري العربي.. فلا إعلام بلا ثقافة ولا ثقافة بلا إعلام.
وآليات التجديد الإعلامي تركز علي صناعة الأفكار و رصد البرامج المختلفة من خلال وسائل الإتصال وصناعة الرأي العام العربي لخلق فئات مثقفة بالفكر الجديد وبناء قوة ناعمة قوية من خلال وسائل الإتصال الإعلام التكنولوجي.
ومن الأفكار المهمة التي يجب العمل عليها لبناء منظومة فكر إعلامي حديث ومعاصر في العالم العربي، التركيز على مجموعة من المحاور التي تعزز من قوة الإعلام وتأثيره الإيجابي على المجتمع ومنها حرية الصحافة والإعلام في البحث في التشريعات والسياسات التي تضمن حرية الصحافة وتوفير بيئة آمنة للصحفيين. وكذلك حقوق الإعلاميين وكيفية حمايتهم وتعزيز استقلاليتهم.
من خلال الأخلاقيات المهنية وتطوير مبادئ أخلاقية للإعلاميين تضمن النزاهة والدقة والحياد في تقديم الأخبار. في اطار المسؤولية الاجتماعية: وتعزيز المسؤولية الاجتماعية للإعلاميين والمؤسسات الإعلامية تجاه المجتمع.
مع الاهتمام بدراسة تأثير التكنولوجيا الرقمية على الإعلام وكيفية إستغلالها لتعزيز المحتوى الإعلامي وكيفية إستخدامها بشكل إيجابي.
ودعم التعددية الإعلامية والتنوع في وسائل الإعلام لضمان تعدد الأصوات والآراء من خلال تعزيز دور الإعلام المحلي في تمثيل المجتمعات المحلية ونقل اهتماماتها وتطوير المناهج التعليمية الإعلامية لتشمل أحدث تقنيات وممارسات الإعلام من خلال التدريب المهني وتقديم برامج تدريبية مستمرة للإعلاميين لتحسين مهاراتهم ومواكبة التطورات ودراسة دور الإعلام في إدارة الأزمات والكوارث وتقديم معلومات دقيقة للجمهور. مع استمرار التوعية والتثقيف من خلال إستخدام الإعلام كأداة للتوعية والتثقيف حول القضايا المهمة مثل الصحة، البيئة، وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة وضمان حق الوصول إلى المعلومات للمواطنين بصفة عامة، والإعلاميين يصفة خاصة.
وقبل كل شيء هناك مسئولية كبري للإعلام العربي في صناعة الحلم والأمل في الوطن العربي من خلال إبراز. النماذج الإيجابية في وطننا العربي من المحيط للخليج ونشر الوعي وفق أولويات محددة تسعي إلي الإصلاح والتنوير وبناء الانسان.
فمن غير محتوي إعلامي عربي قائم علي تقدير قيمة الانسان العربي والإنجاز العربي سيكون من الصعب احداث أي تنمية وتطوير في القطاع الإعلامي العربي، ومن ثمة القيام بدوره المأمول في دعم قضايا الأمة العربية.
فليس هناك دافع للإنجاز والعمل والتقدم بل والحياة نفسها أكثر من وجود حلم لدي المواطن العربي بالمستقبل الأفضل وهو ما يجب ان يصنعه إعلامه معه.
وكما قال الشاعر محمود درويش: لم نحلم بأشياء عصية نحن أحياء وباقون.. وللحلم بقية.