“الممثل الحقيقي البارع هو ذلك الشخص الذي يستطيع أن يقول ما لا يعتقد بطريقة طبيعية كما لو كان يعتقده حقا” هذه الجملة المنسوبة إلى جان جاك روسو في رأيي تنطبق تماما على أحمد زكي من معرفتي بحالته الذهنية والنفسية وخلفيته الاجتماعية والثقافية وما مر به من أحوال وتقلبات وصراعات لا قبل لشخص ريفي -إضطرته ظروفه إلى اقتحام مدينة متوحشة كالقاهرة .
تحول كلام أحمد إلى همس وهو يخبرني – وقد ملأه خجل رأيته مضحكا – أنه يري طبيب نفسي بشكل منتظم، وعندما ابتسمت مندهشا وقلت له “:عادي يابوحميد كل الناس عندها طبيبها النفسي زي دكتور الأسنان، وأنهم في الغرب يعتبرونها ضرورة لأي مهنة وفي أي سن وليس عليه أن يشعر بأي خجل خاصة وهو يمارس مهنة شديدة الصعوبة وفي مناخ بالغ القسوة.. وعندما أطمأن أحمد طلبت منه قرصا يساعدني على النوم عندها فتح شنطة يد صغيرة قائلا :” خد اللي إنت عايزة” ضحكت وقد صدمت لكمية الأدوية وتنوعها (وجميعها لا يصرف إلا بتذكرة طبية): إيه كل ده يازكاوة دي قضية إتجار مش تعاطي.. لاحظت على وجهه ملامح أسي وكأنه يقول: وماذا أفعل عندما أختلى بوحدتي؟
أعتقد أن ما جعل علاقة الصداقة التي جمعتنى بأحمد زكي مختلفة أنها لم تكن نمطية كما يريدها أحمد ممن عرفهم والذي كان يحبذ موافقتهم على كل ما يفعله أو يقوله (وهو كما ذكرت سابقا ما كان يفعله الصديق ممدوح وافي).. كانت ” الندية ” والاحترام المتبادل يسود بيننا وكان إيماني المطلق بموهبته الخارقة واضحاً ومعرفته بذلك يجعله – بشكل ما – يقبل إنتقادي لبعض تصرفاته ومواقفه ورفضي لبعض سلوكياته التي كنت أعلم يقينا أنها نتيجة طبيعية لشخص يحمل داخل جسده الرقيق (أسلاكا عارية).. وفي مرات عديدة كان يطلب مني أن اتحسس يديه التي هربت منها الدماء فأصبحت باردة برودة الثلج أو أن أتحسس (بطنه) المنتفخة بقولون عصبي يحرمه من تناول ما يحب متذكرا سيرة عبدالحليم حافظ الذي هاجمه النزيف في لحظة الشهرة.
ورغم أسلاك أحمد العارية أشهد بأنه– كمحترف – كان شخصا منضبطا بشكل عام داخل مواقع التصوير فلا ألفاظ قبيحة أو متجاوزة تصدر عنه ولا كان يقبل ذلك من أي عنصر من كوادر العمل وهو أمر كان سائداً للأسف بين نجوم التمثيل والإخراج كدليل (مفتعل) على قوة الشخصية والسيطرة على الموقع.
لكن الأمر لا يخلو من معارك صغيرة و (خصامات).. محدودة: كنت مساعداً لطارق العريان في فيلم الباشا وكان (الأوردر) في الصباح الباكربمقابر الدراسة وكان يوما مكلفا إذا استعان طارق بمصور أمريكي للمرة الأولى حاملاً الكاميرا المحمولة Steady cam وكان المفروض أن يصور أحمد بنظارة سوداء (راكور).. النظارة غير موجودة.. وعندما سألنا (أنور) مساعد أحمد قال ببساطة: الأستاذ أخذ النظارة أمبارح ورفض يديها لي.. ولما كان أحمد لا يجب أطلاقاً أن يكون سببا في الغاء أوردر او تأجيله.. وأيضاً لاحساسه بخطأه لأنه لم يقض الليل في منزله (لسبب لا داعي لذكره) فقد وجه كل غضبه نحو (أنور) الذي كان شخصا رقيقا اخذه أحمد من مهنته الأصلية كترزي بلدي نحو عالم السينما التي ظن (أنور) أنها سوف تناسب طاقته وموهبته.. لذلك كان غضبي مع طارق العريان عارما عندما راينا احمد يتجاوز (الكلام) إلى ضرب الرجل بشكل مهين (بالشلوت) أمام الجميع.. اجتاحني الغضب تلقائياً ولم استسلم لمحاولة طارق منعي من التدخل فاتجهت نحو زكي متحفزا قائلاً :إيه ياأحمد فيه إيه؟ بتضرب الراجل ليه وإنت اللي غلطان؟! وفي لحظة نادرة نظر أحمد نحوي بدهشة ثم إلتفت إلى الجهة الأخرى.. وعندها أخذت (أنور) بعيداً وقلت له معلش يأنور زي أخوك.. إحنا هنعمل مشهد تاني لغاية ما تيجي النظارة.
استغرب طارق رد فعل زكاوه الذي نعرف جميعاً عصبيته ولكني استغربت نفسي اكثرواندهشت لسلوك أحمدي الذي لم ينس الموقف حتى أنه جاء إلى بعد (روقان) الحال وإنتهاء التصوير اليومي على خير.. قائلاً: إنت كنت عايز تضربني يامجدي؟ ضحكت قائلاً: ليه هو أنا مجنون؟ أنا بس كنت عايزك تعرف غلطتك.. وضحك أحمد قائلا ياعم ماتزعلش..صالحته وأعتذرت له وروقته آخر رواقه. بس مكانش لازم يفضحني.. قلت يفضحك ليه.. إنت كنت فين؟ ضحك وتركني بلا إجابة.. وبالمناسبه اعتقد ان الكوميديا التي كان يقدمها احمد زكي شديدة الخصوصيه فلا علم لي بخفة ظل شخص بمثل عصبية زكاوه وحدته فقد كانوا جميعا اصحاب مزاج رائق او يتمتعون بهدوء يشبه طبيعة الموظفين ..رحم الله زكاوه.. طاقة الإبداع التي استنزفها واقع شديد الصعوبة والتعقيد ورغم ذلك أمتعنا بفنه وصدقه وخفة ظله .