الثروات التي تحولت إلى لعنة في العراق
في العراق، الثروات لم تكن يوماً وقوداً للنهضة، بل تحولت إلى وقود للخسارات المتكررة. حين تتدفق مليارات الدولارات من باطن الأرض إلى خزائن الدولة، يفترض أن تكون النتيجة مدناً تتفتح، وشوارع تمتد، وأجيال تصعد فوق أكتاف التعليم والصحة والعمل. لكن في بلاد الرافدين، بدا وكأن المال حين تكاثر صار لعنة؛ كلما ازدادت العائدات، ازدادت التشققات في جدران المجتمع، وتوسعت الفجوات بين السلطة والناس.
الخرائط المحطمة: حين تنطق الأرقام بلسان الخراب
حين يتحدث غازي فصيل عن الأرقام، فهو لا يسرد إحصاءات جافة، بل يرسم لوحة واقعية لوطن منهك:
- 12 مليون فقير يشهدون أن الثروة لم تلامس أيديهم، وأنها مرت بهم كريح ساخنة تحمل غبار الوعود الخائبة.
- 16 مليون عاطل يمشون بلا اتجاه في أزقة المدن المنهكة، يبحثون عن وظيفة تسند يومهم أو تحفظ كرامتهم المنهارة.
- 4 ملايين إنسان يسكنون في عشوائيات تتآكل فيها أبسط مقومات الحياة، بلا ماء نظيف ولا خدمات ولا أفق مرئي.
- 6 ملايين يتيم، فقدوا ذويهم في حروب لا تلد إلا اليُتم، كأن العراق أصبح مصنعًا لإنتاج المآسي.
- مليونان من الأرامل يتحركن بين جدران الوحدة والفقر، يربّين جيلاً يتعلم منذ طفولته أن الغياب جزء من المعادلة الوطنية.
- 12 مليون أمي، وكأن الحضارة التي اخترعت الكتابة فقدت ذاكرتها في مدنها الحديثة.
هذه ليست مجرد أرقام؛ بل أرواح فقدت حقها في المستقبل، وقصص موت بطيء تمتد على خارطة وطن.
ثروات مسروقة: بين شهقات الأرقام وصمت العدالة
في خلفية هذا الانهيار، تقف قصة هدر لا يمكن للعقل أن يستوعب حجمه. بحسب غازي فصيل، فإن العراق أهدر أكثر من 700 مليار دولار في سنوات الوفرة النفطية، مبلغ كان كافيًا ليحول البلاد إلى واحدة من أغنى دول الشرق الأوسط. ولم تكن هذه الخسارة مجرد سوء إدارة، بل عملية نهب منظمة تمت برعاية أنظمة حكم فشلت في بناء دولة، ونجحت في بناء إمبراطوريات فساد عابرة لكل المعايير.
انهيار السيادة الاقتصادية: حين تتحول بوابات الدولة إلى مزادات خاصة
في شهادة أخرى من شهادات الخراب المتراكم، يشير غازي فصيل إلى أن الفساد لم يتوقف عند حدود الوزارات أو المشاريع الخدمية، بل تمدد ليطال البنى الاقتصادية العميقة للدولة.
- فالمنافذ الحدودية، التي كان يُفترض أن تكون شرايين لحركة التجارة والتنمية، تحولت إلى ممرات سرية للتهريب، تتحكم بها شبكات منظمة تحوّل الإيرادات العامة إلى مغانم خاصة.
- وفي كل منفذ حدودي، كانت الخزينة تخسر ملايين الدولارات شهرياً، دون أن تجد الدولة سبيلاً لاستعادة سيطرتها على تلك المعابر التي باتت أشبه ببوابات موازية، خارج سلطة القانون.
- وفي موازاة هذا الانهيار، تصاعد تفشي الشركات والبنوك الوهمية التي اخترقت الجهاز المصرفي، محولة إياه إلى شبكة لتبييض الأموال وغسلها بواجهات تجارية زائفة، ما أدى إلى تفريغ السوق العراقي من أي دورة نقدية حقيقية مستقلة.
حين تبتلع اللعنة الوطن
العراق اليوم لا يعيش أزمة فساد طارئة؛ بل يعيش نتائج عقدين من بناء دولة مقلوبة: ثرواتها تسرق على رؤوس الأشهاد، ومجتمعها ينزف بهدوء، وسلطتها التنفيذية تتآكل بين شراهة النهب وعجز المساءلة. الثروات التي كان يمكن أن تصنع نهضة تاريخية، تحولت إلى أداة دمار طويل الأمد. والأموال التي كانت تستطيع أن تعيد للرافدين مجدهما القديم، جرت كأنهار سوداء عبر جيوب محدودة، وتركت خلفها شعباً يبحث عن ماء نظيف، وكهرباء مستقرة، ومدرسة بلا شقوق.
في النهاية، لا يقف الخراب عند حدود الورقة المالية، بل يترسخ في وجدان الناس كقدر ثقيل.. ثروات صارت لعنات، وصناديق صارت سراديب للفقر، ودولة صار شعارها الوحيد: كيف نحكم الخراب… لا كيف نبنيه.