لاشك أنه ثمة طفرة جديدة حدثت في السينما المغربية خلال السنوات العشر الأخيرة، هذه الوثبة شكلية وموضوعية مثيرة للاهتمام والتأمل، خصوصًا أنها تعكس الكثير من التنوع فيما تطرحه السينما المغربية مؤخرًا من قضايا ونصوص وحكايات إنسانية واجتماعية وسياسية وغيرها، بما يرشحها للوصول إلى المحافل الدولية، سواء كانت مهرجانات أو حتى بعض العروض التجارية خارج المغرب، في أوروبا تحديدًا، هذا من ناحية ظهور الأفلام المغربية بعيدًا عن موطنها، أما في الداخل، فقد أصبحت هناك إنفراجة بعد إفتتاح العديد من صالات العرض على امتداد الجغرافيا في المملكة المغربية، وبالتالي أصبح الأمر هينًا ولا توجد أزمات في عرض الأفلام المغربية التي كانت لا تجد في السابق منفذًا سوى في المهرجانات محلية أو عالمية.
إذًا، هناك تطور ملحوظ في الكم الإنتاجي، لا سيما أن أغلب الإنتاجات بدعم من المركز السينمائي المغربي، وظهرت أجيال جديدة ومختلفة من المخرجين والسينمائيين المغاربة بمعالجات سينمائية مغايرة تصب جميعها في تيار التنوع والتجديد في الصورة والجوهر، وفي ذات الوقت استطاعت أن تخلق تواصلًا جماهيريًا دون أن تهمل الحضور العالمي في المهرجانات الكبيرة، وقد رأينا في السنوات الأخيرة الحضور المغربي يترسخ في كان وبرلين وغيرهما، إضافة إلى المهرجانات العربية، بخلاف الانفتاح على أسواق العرض التجاري في الغرب.
ارتفاع عدد ما تنتجه السينما المغربية أصبح يتوازى مع محاولات الظهور في الأسواق الخارجية، يتساوى في هذا إنتاج المركز السينمائي والشركات الخاصة والأفلام المستقلة.. صحيح أنه مازالت توجد إلى حد ما صعوبة في دخول سوق العرض العربي، أتصور أنها ستحل بمزيد من الجهد وتأسيس قنوات ومنصات عرض وتوزيع جادة، لكن الصالات الداخلية التي ازدادت في المغرب منذ العام الماضي سوف تتيح الكثير من الفرص أمام المخرجين والمنتجين وصانعي الأفلام، وستمنح الشباب الجدد فرص جيدة للعمل وتكريس أسماء جديدة تضيف عمقًا في الهوية المغربية.
لعل هذا المدخل الطويل نوعًا يناسب “الوثرة”، الفيلم الجديد للمخرج إدريس الروخ، عُرض أمس الاثنين عرضًا خاصًا في القاعة الكبرى لـميغاراما الدار البيضاء، بحضور طاقم الفيلم وعدد من الشخصيات الفنية والثقافية وتستقبله الصالات المغربية المحلية غدًا الأربعاء، يحمل الفيلم بُعدًا إنسانيًا واجتماعيًا عميقًا، يستكشف الصراعات الداخلية والخارجية لشخصيات تبحث عن موطئ قدم لها في عالم لا يكفّ عن التحوّل. يشارك في بطولته نخبة من النجوم المغاربة، من بينهم: سحر صديقي، حميد السرجيني، إلهام قروي، طارق البخاري، كريم بولمال، وكذلك مخرجه إدريس الروخ وآخرون…
يمزج “الوثرة، بين الدراما الاجتماعية والبُعد الموسيقي، ليقدّم للجمهور رحلة إنسانية مؤثرة، تتناول مواضيع مثل الهجرة، وصدام التقاليد مع تحوّلات العصر، والنضال من أجل البقاء في عالم قاسٍ لا يرحم، حيث يروي قصة “شعيبة”، موسيقي شعبي وعازف للوتار، يضطر إلى مغادرة قريته بسبب الجفاف، باحثًا عن حياة أفضل في المدينة. رفقة زوجته وابنه، يلجأ إلى منزل ابن عمه “محيرش”، الذي يعيش في حي صفيحي غارق في الجريمة وتجارة المخدرات.
ومع مرور الوقت، يغوص “شيبة” في عالم الليالي الصاخبة والانحلال، ما يؤدي إلى تدهور علاقته بعائلته التي تحاول جاهدة إنقاذ ما تبقّى من كيانها. ذلك من خلال رؤية إخراجية واقعية وقوية، يعكس الفيلم هشاشة الأحياء المهمشة، حيث لا ينجو إلا من يفرض قوانينه الخاصة، كاشفًا الفوارق الاجتماعية والانهيار التدريجي للفئات الضعيفة.
يشكّل “الوثرة” محطة مفصلية في مسار إدريس الروخ، الذي لا يكف عن السعي في المساحة الواصلة بين الإخراج والتمثيل، دؤوبًا في سعيه وتثبيت مكانته كمخرج وممثل بارز في المشهد السينمائي المغربي، محاولًا التعبير بأسلوب سينمائي مميز يفيض بأحلامه الفنية في تقديم صنيع بصري مدعوم بخياله الممتد في العناصر الفنية المختلفة للفيلم ومنها الموسيقى التصويرية التي تشكل ركنًا أساسيًا في عمله، وكذا الطاقة التمثيلية اللافتة في فريق عمله من الممثلين.