في الذكرى الثلاثمائة لرحيل الفيلسوف إيمانويل كانط يظل حلم السلام الدائم موضوعاً يستحق إعادة النظر فيه إذ كان كتاب السلام الدائم الذي طرحه كانط حجر الزاوية في تشكيل أسس النظام العالمي، وخاصة في أوروبا عبر تأكيده على ضرورة إقامة نظام دولي يقوم على القانون الدولي والاحترام المتبادل وكرامة الإنسان، كما دعا إلى حق الضيافة الذي يضمن للمهاجرين والزوار استقبالاً إنسانياً يتجاوز الحدود والمصالح الضيقة، ويشكل أحد أركان السلام العالمي، كما كان يرى أن نزع السلاح خطوة حاسمة لتفكيك آليات القوة العسكرية التي تقوض الاستقرار العالمي وتجعل الصراعات الأسلحة الوسيلة الأساسية لحل النزاعات بدلاً من الحوار.
ومع ظهور العولمة أصبحت نظريات كانط تتأثر بواقع عالمي معقد، حيث تداخلت المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية، وصارت بعض الدول تستخدم ازدواجية النظام الدولي لصياغة قواعد تحكم العلاقات الدولية، بحيث يُمنح بعض الدول معايير مختلفة عند تطبيقها على حق الشعوب في تقرير مصيرها، في حين تُفرض على دول أخرى شروط قاسية تسلبها هذا الحق الأساسي؛ مما يتناقض مع المبادئ الأخلاقية التي دعا إليها كانط في رؤية السلام الدائم.
وقد تجلت هذه التناقضات في النظام الدولي في مظاهر عدة من واقع العولمة، ففي حين كان يُنظر إلى العولمة كمحفز لنشر القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، برزت سياسات هيمنة أمريكية متبعة لأسلوب القوة الناعمة والصلبة في آن واحد أدت إلى تقويض إمكانية تحقيق السلام العالمي الحقيقي، وتجسد ذلك في استخدام السياسة النقدية كوسيلة للضغط على الدول النامية والتلاعب بخياراتها الاستراتيجية؛ كما أن التناقض بين الدعوات لنزع السلاح من جهة واستمرار سباق التسلح من جهة أخرى، يجعل من الصعب تحقيق الرؤية الهادف إلى إقامة نظام عالمي يعتمد على الحوار والاحترام المتبادل .
وقد تمثل ذلك في الصراعات الجيوسياسية المعاصرة مثل حرب غزة وصراع روسيا وأوكرانيا التي أبرزت كيف دمرت التوترات السياسية والجيوسياسية واقع أحلام العولمة الزائفة التي كان من المفترض أن تضع السلام كقيمة أخلاقية بحتة في حد ذاتها.
وفي ظل ظهور تيارات يمينية متطرفة وانتشار خطاب القومية كما تجلى في عهد ترامب، تراجعت ثقة العالم في الآليات الدولية للحوار والتفاوض مما أبرز الحاجة الملحة للعودة إلى دراسة إرث كانط واستلهام رؤيته الأخلاقية لإعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة قائمة على حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى مبادئ حق الضيافة ونزع السلاح، بعيداً عن الازدواجية والانقسام، لتكون قيم السلام والعدالة والأخلاق هو المعيار الأساسي في صياغة مستقبل مشترك قائم على التعاون الحقيقي وتجاوز التنافس القائم على المصالح الضيقة والانقسامات السياسية التي أدت إلى تهميش روح الإنسانية.
صحيح أنه في عام 1795، اقترح إيمانويل كانط «مشروع السلام الدائم كمخطط فلسفى»، وهو كتيّب قد يبدو لأول وهلة بعيدًا عن واقعنا الحالى، لكن عند الرجوع إليه اليوم فى سنة 2025، يمكننا أن نتساءل: هل توقع كانط مجىء ترامب؟ بالطبع، ما كتبه الفيلسوف الألمانى جاء فى سياق مختلف تمامًا، لكن أفكاره حول ضرورة السلام والعدالة والتعاون الدولى تتناغم بطريقة غريبة مع عالم اليوم، عالم أصبح فيه التهديد والوعيد والحرب والدمار من الأمور العادية واليومية. فربما، فى هذا الوقت أكثر من أى وقت مضى، نحن فى حاجة إلى أفكار كانط عن السلام العالمي الدائم .
يقول الفيلسوف كانط في مذكراته :
بدأت حياتي معتقدا أن رقي الإنسان وشرف الإنسان وحيثية الإنسان هي رهن ما يحصله من معرفة (شهادات، معارف، ثقافة) إلى أن
أستيقظت من غفلتي حين قرأت وعلمت أن الإنسان يكون بمقدار ما يكون إنسانا وهو
الإنسان الجمالي الذي يدرك جمال الوجود وجمال الخلق،
وحينها أدركت غفلتي وبدأت أعلم نفسي كيف احترم إخواني
من بني الإنسان
صحوة كانط الخاصة التي تحدث عنها في مذكراته ربما تكون أساسا لصحوة أخرى نحتاجها في العلاقات الدولية، لتكون قائمة على حرية الشعوب وكرامة الإنسان.