لطالما كانت علاقة الرئيس دونالد ترمب بالدولار الأميركي علاقةً متناقضة؛ فمن جهة، يُعلي ترمب من شأن المكانة العالمية المرموقة التي يتمتع بها الدولار كعملة احتياطية رئيسة في العالم، ولكنه أيضاً يوجّه الانتقاد إلى الأعباء التي يفرضها هذا الوضع على الصادرات الأميركية واتساع العجز التجاري الأميركي، الذي وصل مؤخراً إلى نحو 78 مليار دولار. ويكمن جوهر هذا التناقض في أن الدولار الضعيف قد يعزز الصناعة الأميركية، لكنه في الوقت ذاته يقوض القوة المالية والمكانة العالمية التي يضمنها الدولار القوي. ونهج ترمب، الذي يجمع بين الرسوم الجمركية والتقلبات السياسية المفاجئة، ترك الأسواق في حالة من الحيرة وعدم اليقين، وجعل قيمة الدولار تتأرجح. وانخفض الدولار منذ بداية هذا العام بنحو 8 في المائة، وهو يشهد هذا الشهر أسوأ أداء منذ ثلاث سنوات، والعالم قد جرّب لسنوات طويلة الدولار القوي، ولكن ما الذي سيحدث لو ضعفت قيمة الدولار؟
أحدث تراجع الدولار الأميركي مؤخراً صدى واسعاً في الأسواق العالمية، وتسبب في سلسلة معقدة من التفاعلات، بالنسبة للمصدّرين، خصوصاً في اليابان وأوروبا. وأضاف ضعف الدولار عبئاً إلى الرسوم الجمركية الأميركية؛ إذ إن غياب ميزة سعر الصرف الملائمة جعل تكلفة تصدير السيارات والسلع الفاخرة إلى الولايات المتحدة أعلى. وتواجه شركات كبرى مثل تويوتا و«LVMH» خسائر ناجمة عن تغيرات العملة. أما البنوك المركزية، وخصوصاً في أوروبا وآسيا، فوجدت نفسها مضطرة إلى النظر في خفض أسعار الفائدة للحفاظ على القدرة التنافسية وتفادي مخاطر الانكماش.
علاوة على ذلك، أحدث ضعف الدولار تشوّهات واضحة في موازنات الأرباح العالمية. فالشركات الأجنبية العاملة في السوق الأميركية أصبحت تسجّل أرباحاً أقل عند تحويلها إلى عملاتها المحلية، كما أن المستثمرين الدوليين، الذين أربكتهم السياسات الجمركية المتقلبة وتصريحات البيت الأبيض المتضاربة، بدأوا في بيع الأصول الأميركية وتحويل رؤوس أموالهم إلى أسواق أكثر استقراراً.
ويُعد أحد أبرز الآثار المباشرة لضعف الدولار هو تأثيره على أسعار السلع الأساسية عالمياً؛ إذ إن معظم السلع كالنفط والمعادن والمنتجات الزراعية تُسعّر بالدولار، وبالتالي يؤدي انخفاض قيمته إلى رفع أسعارها في الأسواق العالمية، ويثقل ذلك كاهل الدول المستوردة لهذه السلع، كما يسهم في دفع معدلات التضخم إلى الارتفاع، لا سيما في الاقتصادات النامية، مما يضع البنوك المركزية أمام تحديات صعبة لتحقيق التوازن بين النمو والسيطرة على الأسعار.
ويؤثر الدولار الضعيف في تدفقات رؤوس الأموال، فالمستثمرون الباحثون عن عوائد أعلى يُحوّلون أموالهم نحو الأسواق الناشئة، حيث تكون العوائد أكثر جاذبية، ورغم أن ذلك قد ينعش أسواق الأسهم والسندات في دول كإندونيسيا والمكسيك وتركيا، فإنه يرفع أيضاً احتمالات تكوُّن فقاعات مالية ويجعل هذه الاقتصادات أكثر عرضة لتقلبات السوق في حال عودة الدولار إلى القوة، وفي الوقت ذاته، تستفيد الدول والشركات التي لديها ديون مقوّمة بالدولار من انخفاض تكاليف السداد، فدول مثل مصر وتركيا تجد نفسها قادرة على سداد التزاماتها بالدولار بأسعار أقل عند تحويلها إلى عملتها المحلية، ولكن هذا أيضاً قد يشجع على الاقتراض المفرط ويهيئ لأزمات مستقبلية.
أما في الولايات المتحدة، فإن الدولار الضعيف يقدم مجموعة من الإيجابيات والسلبيات. فمن جهة، قد يساهم في تقليص العجز التجاري من خلال تعزيز صادرات البلاد وجعلها أكثر جاذبية، مما ينعش التصنيع ويوفر فرص عمل جديدة، وهو ما يرمي إليه الرئيس الأميركي بشكل أساسي، ولكن من جهة أخرى، فإن الانخفاض يرفع تكلفة الاستيراد، مما يرفع الأسعار ويزيد من التضخم. ويأمل ترمب أن تزيد الرسوم الجمركية، وانخفاض الدولار، من زيادة الإنفاق الأميركي المحلي على السلع الأميركية بدلاً من المستوردة، وفي ذلك صعوبة كبيرة؛ إذ إن الكثير من المنتجات المستوردة لا يوجد لها بديل محلي.
وعلى مر التاريخ، شهدت فترات ضعف الدولار نتائج متباينة، فبعد انهيار نظام «بريتون وودز» في السبعينات، أدى ضعف الدولار إلى تفشي التضخم في الولايات المتحدة وارتفاع أسعار السلع، أما في عام 1985، فقد وقعت الولايات المتحدة اتفاق «بلازا» عمداً لإضعاف الدولار وتقليص العجز التجاري، ما أدى إلى ضغوط على اليابان وألمانيا وانفجار فقاعات الأصول. وفي مطلع الألفية، وبعد أزمة الدوت كوم، أدى ضعف الدولار إلى تدفق رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة، لكنه زاد من عجز الحساب الجاري الأميركي.
وفي نهاية المطاف، فإن التلاعب المتعمد بقيمة الدولار – سواء عبر الرسوم الجمركية أو الضغوط على السياسة النقدية – ينطوي على مخاطر جسيمة. فمكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية تستند إلى الثقة في المؤسسات الأميركية واستقرار سياساتها المالية، وزعزعة هذه الثقة من أجل مكاسب سياسية قصيرة الأجل قد تقوّض الدور المحوري للدولار، وتدفع الدول إلى تنويع احتياطاتها، وهو بالفعل ما بدأ يناقشه الكثير من مراكز الأبحاث، وهو مرحلة ما بعد الدولار، وعليه فإن النظام المالي العالمي بشكله الحالي معرّض للتغيير، والدولار الضعيف قد يمنح الاقتصاد الأميركي دفعة مؤقتة، لكنه قد يكلف العالم نظاماً مالياً مستقراً دام لعقود.