«أبريل (نيسان) أقسى الشهور» هكذا يبدأ الشاعر الأنجلو – أميركي توماس إليوت قصيدته المشهورة «الأرض الخراب». بالتأكيد للشاعر أسبابه التي جعلته يتكئ على شهر أبريل ليكون مفتتحاً ومدخلاً للقصيدة التي صارت تشير لبدء مرحلة جديدة في مسيرة الحركة الشعرية في الغرب، ومن ثم وصلت تأثيراتها إلى حركة الشعر العربي. وفي الروزنامة السياسية الليبية يُعدّ شهر أبريل كذلك أقسى الشهور، حيث صار يشير لأحداث كان لها أصداء سياسية خطيرة داخلياً في ليبيا، وأثرت سلبياً على علاقتها بالعالم خارجياً، وأكسبتها صيتاً سياسياً سيئاً.
الحدثُ الأول كان في يوم 15 من شهر أبريل 1973، وأطلق عليه اسم «خطاب زوارة التاريخي»، وفيه أعلن القذافي ما صار يعرف باسم «الثورة الثقافية»، والتي أدت إلى فتح أبواب المعتقلات والسجون أمام المئات من المثقفين والكتاب والحزبيين والأكاديميين في ليبيا. الثورة الثقافية القذافية نسخة ليبية مقلدة من الثورة الثقافية الصينية، وفيها تمكن الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ من تصفية خصومه. تلك الثورة المشؤومة كانت البداية لتفكك أطر الإدارة الليبية، وبالتالي الدولة الليبية، حيث حلّت مكانها ما أطلق عليه النظام اسم «الإدارة الشعبية»، التي فتحت أبوابها لكل من هبَّ ودبَّ.
الحدثُ الثاني كان في يوم 7 من شهر أبريل 1976، متجسداً فيما صار يُعرف في روزنامة النظام بـ«الثورة الطلابية». وكنت شخصياً أحد ضحاياها. وفيها تمكن القذافي من تصفية الحركة الوطنية الطلابية الليبية من الجامعات، والسيطرة عليها. تلك الثورة أدت إلى سجن العشرات من قادة الحركة الطلابية بأحكام طويلة في السجون، وطرد المئات من الطلاب من الدراسة، ومنعهم من السفر. وحرص النظام على إحياء تلك الذكرى سنوياً بإقامة المهرجانات، وكذلك بنصب المشانق في الجامعات، وإعدام الطلاب بتهمة الخيانة.
الحدث «الأبريلي» الثالث حدث يوم 17 أبريل 1984 في ميدان «سانت جيس سكوير» في العاصمة البريطانية لندن، أمام مقر السفارة الليبية، حيث أطلق رجال الأمن الليبيون من داخل السفارة النار على متظاهرين ليبيين معارضين للنظام، وأدى ذلك إلى إصابة العديد منهم بجروح، وقتل شرطية بريطانية تدعى إيفون فلتشر. وتسبب الحدث في أزمة سياسية خطيرة بين ليبيا وبريطانيا، وقطع العلاقات الدبلوماسية بينهما لسنوات طويلة. الضرر الأكبر تمثل في طرد المئات من الطلاب الليبيين الدارسين في الجامعات البريطانية، وترحيلهم إلى ليبيا.
الحدث الرابع جاء بعد سنتين، أي في أبريل 1986، وتمثل في قيام طائرات أميركية مقاتلة بالإغارة على طرابلس. والسبب اتهام أميركا لنظام القذافي بتفجير نادٍ ليلي في مدينة برلين بألمانيا، كان يرتاده جنود أميركيون وأدى التفجير إلى جرح ومقتل عدد منهم. تلك الغارة أدت بالقذافي إلى استحداث روزنامة جديدة حلّت محل الروزنامة الغربية في التاريخ. وفيها سُمي شهر أبريل بشهر الطير.
يوم الخميس الماضي، مرت الذكرى الحادية والأربعون لحدث مقتل الشرطية البريطانية، وإطلاق النار على متظاهرين مدنيين ليبيين، في خرق واضح غير مسبوق للوائح والنظم البروتوكولية الدبلوماسية.
تأتي أهمية الحدث مما ترتب عليه من عواقب سياسية خطيرة أدت برئيسة الحكومة البريطانية آنذاك مارغريت ثاتشر إلى اتخاذ قرارات وإجراءات معادية لنظام القذافي، وفي الوقت ذاته فتحت الأبواب أمام تزايد نشاط حركات وأحزاب المعارضة الليبية، وأضحت بريطانيا مقراً ومستقراً آمناً للعديد من قياداتها وكوادرها، ممن كانوا طلاباً دارسين في بريطانيا، واختاروا إعلان الخروج عن النظام ورفض العودة إلى ليبيا.
في تلك الفترة الزمنية نفسها، كنت سجيناً في سجن بوسليم بطرابلس في قسم المحكومين بالسجن المؤبد. وتابعت مع رفاقي من السجناء المحكومين الحدث، عبر إذاعات العالم، وفي مقدمتها إذاعة «بي بي سي».
قضية الشرطية البريطانية إيفون فلتشر ظلت سنوات طويلة بمثابة حسكة في حلق نظام القذافي، وللأسف الشديد فشلت أجهزة الأمن البريطانية في القبض على الفاعل أو الفاعلين. وأقيم للشرطية إيفون فلتشر نصب صغير في الميدان نفسه الذي قتلت فيه. وتمت لفلفة القضية فيما بعد، في تسوية سياسية بين البلدين، أدت إلى إعادة استئناف العلاقات الدبلوماسية، وقيام نظام القذافي بدفع مبلغ مالي إلى جمعية خيرية بريطانية باسم الشرطية المقتولة تعويضاً.