يمر هذا العام مائة عام على تأسيس كلية العلوم جامعة القاهرة، التي تعد بحق بيت العلم في مصر، وموطن مئات العلماء، وتمنينا لو أن الصحافة والتلفاز والمجتمع كله احتفل واحتفي بهذا الحدث، لكن ذلك لم يحدث، وحتى جامعة القاهرة تحتفي به على استحياء، ووجدنا الدكتورة هبة محمد فهمي، تكتب مائة حكاية على صفحتها علي الفيس بوك، كل حكاية تروي جانبا من تاريخ العلم في هذه الكلية، ومن هذه الحكايات:
كان يا ما كان… لا في زمنٍ غابر، بل في قلب القاهرة النابض بالعلم، وتحديدًا داخل أسوار كلية العلوم بجامعة القاهرة، يقبع بابٌ متواضع لا يلفت النظر، خلفه عالَم مدهش… عالَم لا يُشبه ما نألفه.
ليس متحفًا كما نظن، بل مختبر أسرار، ومغارة كنوز.. لا من ذهب، بل من أجنحة دقيقة، وألوان رقيقة، وأجساد هشّة، تحمل في طيّاتها علومًا لم تُكتشف إلا هنا.
تبدأ الحكاية عام 1919، حين حمل شاب مصري يُدعى الدكتور حسن شاكر أفلاطون – أحد أفراد أسرة محمد علي – أدواته، وجال بين الحقول والصحاري، يجمع الحشرات، لا عبثًا، بل إيمانًا بأن في كل كائن صغير سرًّا كبيرًا يستحق أن يُفهم.
لسنوات طويلة، ظلّ أفلاطون يُصنّف، يُدوّن، ويحفظ… حتى حانت اللحظة في عام 1952، ففتح للعالم كنزه العلمي، مُعلنًا ميلاد متحف علم الحشرات، الذي عُرف لاحقًا باسمه، وأصبح أول متحف من نوعه في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وما إن تخطو عتبة القاعة الرئيسية، حتى تشعر بأنك لم تعد في جامعة القاهرة، بل في قلب متحف اللوفر؛ تصميمٌ فرنسي الطراز، تحيطك فيه لا لوحات فنية، بل أكثر من سبعين ألف عينة حشرية، تُجسّد أربعة آلاف نوعٍ مختلف، منها مئات الأنواع التي اكتُشفت لأول مرة هنا، داخل هذا الصرح الفريد.
المتحف مُنظَّم بدقّة علمية تُبهر العقل، فهو يضم ثلاث مجموعات رئيسة:
مجموعة بحثية تخدم العلماء والدارسين.
مجموعة تعليمية مخصصة للطلبة والباحثين.
ومجموعة للعرض المتحفي، وهي الأكثر سحرًا.
تتجلّى في المتحف مشاهد نابضة بالحياة: فترينات مضيئة، وديورامات تنقل الزائر إلى قلب بيئة الحشرة كما هي، ترى الجراد الرحّال يجتاح الصحاري، والجُعران المقدّس يحرّك كرات الطين، وترى ديدان القطن والقصب، والبعوض، وثاقبات الخشب، وآفات المحاصيل، وحشرات الجيف، والروث.
ولا يقف المتحف عند حدود العرض، بل يفتح أبواب الفهم؛ إذ يضم خرائط ولوحات تعليمية توضّح شجرة تطوّر الحشرات، ونسبها في مملكة الحيوان، وتُفصّل تركيب القمل، الصراصير، البراغيث، والقراد… بأسلوب علمي مبسّط، ممتع، لا يخلو من الدهشة.
وهكذا، لا تخرج من المتحف كما دخلت، تشعر وكأن أفلاطون ما زال حاضرًا، يهمس لك من خلف الزجاج:
افهم الحشرة.. تفهم الحياة
إن ما نعرفه عن علماء كلية العلوم في جامعة القاهرة قليل جدا، إلى درجة تماثل جهلنا بقيمة العلم في مصر، أجيال تسلم أجيال، إلى أن نصل في علم الحشرات إلى الدكتور على يونس الذي زاملته في المدينة الجامعية في جامعة القاهرة، فرأيت دأبه منذ صغره فى الحرص على العلم وحبه.
كما أن الكلية تستضيف الجمعية المصرية للرياضيات وغيرها من الجمعيات العلمية، وجمعية الرياضيات عضو فى الاتحاد الدولى للرياضيات، وكان من أبرز أعضائها الدكتور عطية عاشور، هذه الجمعية كادت أن تجمد عضويتها في الاتحاد الدولي بسبب قيود القانون وعدم اعتراف مصر بطبيعة عمل الجمعيات العلمية التي تقتضي التفاعل علي الصعيد الدولي بل والتفاعل عبر مشاريع بحثية متعددة الأطراف.
إنني شخصيا أشهد شخصيا بتواضع علماء كلية العلوم في جامعة القاهرة، فأنا حين كنت في بدايات حياتي كنت أعمل على دراسة عن مشكلة المياه وحلولها في التراثا العربي، وهو ما اقتضى أن أبحث وأسأل، فكان العظيم الدكتور أحمد فؤاد باشا أستاذ الفيزياء الذي كرس جانبا كبيرا من أبحاثه لتاريخ العلوم عند العرب، فذاع صيته في مصر وخارجها وتواضعه تواضع الكبراء علما وخلقا، جعله يمد يده للباحثين المبتدئين، فشكل بجهده الشخصي مدرسة وطنية في تاريخ العلوم.
إن أقسام كلية العلوم المختلفة، وقدراتها من أعضاء هيئة التدريس، ومرور مائة عام علي هذه الكلية العريقة تجعلنا نطرح عدة تساؤلات:
ما البرامج البحثية التي تعمل عليها الكلية الآن؟
ما المعامل الموجودة في الكلية وهل هي مواكبة لمتطلبات البحث العلمي؟
كم براءة اختراع سجلتها الكلية في السنوات الخمس الأخيرة؟
ما موقف الكلية من التطورات العلمية في العديد من المجالات؟
لكن أيضا علينا في هذه المناسبة أن ننادي بأن تكرم الدولة عددا من علماء الكلية الراحلين، ومن هم على قيد الحياة منهم، مع تقديم ما أنجزوه للرأي العام المصري، كما يجب أن تقدم الكلية للرأي العام مشكلاتها وما تعاني منه وما تحتاجه، لكي تنافس مثيلتها في الجامعات الأخري خارج مصر.
إننا ننتظر من جامعة القاهرة أن تعلن هذا العام عام كلية العلوم والعلوم، كما يجب على وسائل الإعلام أن تحتفي بالكلية، لأنه بدون هذا لن يكون للعلم مكان ولا عنوان في مصر.
والحقيقة المرة أن هذه الكلية لا تحظي بالمكانة اللائقة بها، نتيجة للاستهتار بالعلم، وعدم توافر فرص عمل لخريجيها، لذا فالنوابغ ممن يتخرجون من أقسامها تجدهم قبل التخرج يبحثون عن منح في جامعات خارج مصر والتي تتلقفهم لأنها تعرف أنهم عملة نادرة.